الحاجة إلى حكماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي التاريخ أن الحسن بن علي ــ رضي الله عنهما ــ عندما كان على وشك مواجهة معاوية بن أبي سفيان ــ رضي الله عنه ــ توقف بجيشه وخطب في الناس خطبة جاء فيها :«فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظُبي السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى ...» فناداه الناس من كل جانب: «البقية البقية» فآثر المصالحة على القتال.

وتنازل لمعاوية عن الخلافة بعد اتفاق على عدة شروط؛ وحَقَن دماء المسلمين. وفي هذا الموقف تصديق لقوله عليه الصلاة والسلام: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين». ولا حاجة لأن نُجْزِل في مَدْح الحسن وحكمته التي حفظت أرواح عشرات الألوف من الصحابة والرجال الذين نَفْعُهُم وهم أحياء أكثر فائدة من فنائهم.

والناظر إلى حال المسلمين اليوم يقول في نفسه: ألا يوجد من يتمعن في موقف الحسن وكيف أنّه أدرك أن الحياة في سبيل الله لا تقل صعوبة وتضحية عن الموت في سبيل الله! فالله تعالى قد خلق الناس ليعمروا الأرض ويعملوا وينتجوا ويحققوا العدالة ويُتمموا الأخلاق الفاضلة وينعموا بالسعادة، وليس للتناحر والموت.

وفي رمضان الماضي اجتمع مجموعة من علماء الإسلام، الذين نحسن الظن في إخلاصهم، فمن يتتبع منهجهم يدرك أنهم حريصون على النأي بالإسلام عن التشدد والراديكالية وعن «التمييع» كذلك، اجتمعوا وأطلقوا مؤسسة دولية باسم «مجلس حكماء المسلمين» تكمن مهمته في السعي لإطفاء حرائق المسلمين عن طريق استعادة دور العلماء الحقيقي الذي لا ينحصر في داخل الجامعات والحلقات العلمية، بل يتعدى ذلك للنزول إلى بُقَعِ الاحتراب التي تتمدد في الدول الإسلامية كل يوم ومحاولة إيجاد حلول.

والناظر إلى تاريخ العلماء المسلمين في المئة سنة الماضية يُدرك بأن كثيراً منهم كان وقوداً للحروب والفِتَن حتى وإن تلبّس بعباءة الدين وتنطع بنصوص الشريعة، وقسم آخر تقوقع على نفسه، وأغلق بابه اتقاءً للفتنة، في موقف سلبي لا يجب أن يصدر من عالِمٍ أو فقيه. وقد يقول قائل

: وما دور العلماء اليوم؟ وأقول، إن الفتنة المشتعلة في بعض الدول الإسلامية وفي داخل العقل الإسلامي، افْتُعِلَت باسم الدين، وباسم الله، وباسم تطبيق «الحدود الشرعية» لتحقيق وعد الخلافة المزعومة. وهو قولٌ منفصلٌ عن الحقيقة، منفصِمٌ عن الحق، فالإسلام لا يمكن أن يصطدم بالواقع، وليس من فلسفته إشقاء الناس وسلخهم عن حياتهم ليُعيدهم إلى القرون الماضية.

بل الحاصل هو أن الإسلام اختُزِلَ، على مرّ العقود الماضية، في نسختين، سنيّة وشيعية، تتقاطعان في أفكار كثيرة، قوامها التشدد واستخدام نصوص الشريعة للسيطرة على المجتمعات والتحكم في عقول الشعوب ومصائرها. ورغم تفاؤلي بأن هاتين النسختين آيلتان إلى زوال، فإنني.

وكثيرٌ من الناس، قلقون من الفراغ الذي ستحدثه هذه الانهيارات التي باتت وشيكة جداً. لذا، يحتاج علماء الإسلام العقلاء اليوم إلى تكتل جديد، يشتركون فيه مع المؤسسات المُعْتَبَرة في العالم الإسلامي، فيطرحون مشاريع حقيقية وجادة لإنقاذ العقل الإسلامي من غياهب الجهل والعنف.

وهذا أملنا في مجلس حكماء المسلمين الذي أصدر قبل أيام بياناً قال فيه إنه يعكف على إعداد خطة استراتيجية لتفعيل السِّلْمِ في العالم، وهذا أجمل ما فيه، حيث لم يقتصر السلم على الدول الإسلامية فقط، فنحن نسيج من هذا العالم الكبير، ولا نستطيع، ولا يجب في الأساس، أن نعيش منزوين كالصينيين الذين اعتزلوا العالم لأكثر من مئتي عام، فَقَدَت فيها أمّتهم كثيراً من حكمتها ومساهمتها في الحِراك الإنساني.

إن الحكمة في الإسلام باقية، نارها لم تخْبُت، ولكن جَذْوَتَها انْزَوَت في صدور الحكماء، ولقد آن الأوان لكي يكون الحكماء أكثر جرأة وحضوراً وبروزاً ليحاولوا إنقاذ العقل الإسلامي من عبثية الراديكاليين، ومِن عَدَمية اللا دينيين. ولتحقيق ذلك فإنهم في حاجة أولاً، إلى مراجعات حقيقية لكثير من المفاهيم المُقْحَمَة في الإسلام، وتنقية تُراثه بشجاعة ومصداقية لنعقد صُلْحا مع الماضي ومع نفوسنا حتى نستطيع تجاوز عُقَدنا التاريخية والفكرية. ثانياً، العمل على إصلاح المناهج التعليمية في شتى أصقاع الدول الإسلامية وغَرْبَلَتها من أفكار التشدد والتطرف.

وثالثاً، تشكيل رموز جديدة معتدلة، قريبة من المجتمع، تفهم الشباب الذي يُعد الشريحة الأكبر في الدول العربية والإسلامية. نحتاج إلى الحكمة ليس لأنها فقط ضالة المؤمن وهو مَدْعُوٌّ لتتبُعها، بل لأنها طريقنا الوحيد للخلاص من فوضى العنف والإبادة والفناء.

 

Email