نحو عولمة التسوية الفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عشرون سنة وزيادة مرت منذ تحرك قطار التسوية الإسرائيلية الفلسطينية. كان الهدف المعلن لهذه الانعطافة التاريخية، يوم بدأت مصحوبة بصعوبات في مدريد ثم استمرت بشيء من المرونة النسبية في أوسلو، هو بلوغ محطة الدولتين المتصالحتين إسرائيل وفلسطين بين النهر والبحر..

قامت صيغة مدريد على فكرة إشراك كل المعنيين من قريب أو بعيد في تصفية صراع ضروس، ملأ الدنيا وشغل الناس وساهم في تهديد السلم والأمن الدوليين لعشرات السنين. وكانت هذه الفكرة صائبة وصحيحة إلى أبعد الحدود. فالصراع على أرض فلسطين وجوارها بدأ في أجواء إقليمية ودولية مفعمة بالمساومات وعمليات الهدم والبناء ورسم الخرائط المصلحية المادية وغير المادية.

لذا كان من الطبيعي والمفهوم أن تجرى مقاربة التسوية في مناخ قريبة الشبه، بحيث يستشعر كل المتداخلين والمنخرطين، ولا سيما أصحاب المصالح المباشرة، بأنهم جزء من الحل، وهم الذين ساهموا بقدر أو آخر في صناعة المشكلة. لكن اتفاق أوسلو بحيثيته السرية الثنائية، تسبب في صدع كبير لمفهوم عالمية مدريد وشموليته.

وبمرور الوقت وإبحار عملية أوسلو تحول الصدع إلى قطيعة، وانفض أهل مدريد لصالح استقرار القناعة بالمفاوضات المباشرة بين الطرفين الأساسيين. وهذه لعمرك واحدة من ثوابت العقيدة التفاوضية الإسرائيلية، التي تسمح بالاستفراد بالفلسطينيين ومحاولة الإملاء عليهم في ظل موازين قوة مختلة ضدهم.

كان من الممكن تلافي الأعطاب التي أربكت قطار التسوية وعطلت سيرورته، فيما لو لم تتم تنحية المداخلة العالمية عنه بالكامل تقريبا، علاوة على إهمال دوري القانون والتنظيم الدوليين. لقد كان انعزال عملية التسوية، أو بالأحرى عزلها، عن سياقها الدولي، من أقوى أسباب تعثرها ثم توالي بياتها الشتوي الموحش لغير مرة، الى أن توقفت نهائيا في الوقت الراهن.

إيداع التسوية للإسرائيليين والفلسطينيين وحدهم، جعلها تخضع لرؤى وأهداف واستشرافات وإلهامات ومشروعات.. ذات طبائع أيديولوجية وتاريخية وحقوقية وسياسية شديدة التباين. والأهم أن إقدام أحد الطرفين أو إحجامه تجاه التسوية، أضحى بفعل هذه الخاصية مرتهناً بوضوح الى موازين القوة والتفاعلات الداخلية.

يلاحظ هذه الظاهرة من يسترعي انتباهه انشداد أنظار المتابعين، العاطفين منهم على التسوية والمتربصين بها، الى تطورات العملية السياسية وصعود فرص القوى والأحزاب السياسية وهبوطها في الداخلين الإسرائيلي والفلسطيني، وبخاصة أثناء المواسم الانتخابية.

مما يقال بهذا الخصوص، أن اغتيال اسحق رابين عام 1995 في إسرائيل، كان مؤشرا على اشتداد سطوة خصوم التسوية في إسرائيل.. وأن هزيمة حركة فتح في البيت الفلسطيني عام 2006، كانت إيذانا بالشيء ذاته على الجانب الفلسطيني.

السؤال الجوهري هنا، هو كيف يتأتى لمفاوضات التسوية الوصول إلى قواسم مشتركة، فيما طرفاها غير قادرين على بناء مثل هذه القواسم في جبهتيهما الداخليتين؟! هناك موجبات للاعتقاد بأن التباينات إزاء عناصر التسوية وتفصيلاتها وشعائرها وشروطها، تمثل أبرز الكوابح المانعة لطلاقة أيادي المفاوضين فلسطينياً وإسرائيلياً.

ونحسب أن التصور الفلسطيني الساعي حاليا إلى إعادة الاعتبار لتدويل عملية التسوية واستحضار المعنيين بها، عبر أكثر من مدخل وبوابة، وفي طليعتها الأمم المتحدة، هو طوق النجاة الأكثر فاعلية لإنقاذ هذه العملية وتقعيدها على طريق مستقيم.

لو كان أهل السياسة والحكم الإسرائيليون جادين حقاً في إيجاد هذا الطوق، لوقفوا مع الداعمين للتوجه الفلسطيني العتيد نحو استصدار قرار من مجلس الأمن، يبين بحزم حدود التسوية المطلوبة جغرافيا وحقوقيا وسياسيا وزمنيا.

إن خطوة من هذا القبيل من شأنها إعفاؤهم من اللوم ووقايتهم من الاستنزافات والابتزازات؛ التي يزعمون أن منافسيهم السياسيين أدمنوا على إلقائها أمامهم. نقول هذا ونحن نشك تماماً في سلامة نيات هؤلاء القوم وجديتهم تجاه التسوية السلمية من الأصل.. ولدينا كما لدى المتابعين المنصفين، ألف سبب وسبب لمثل هذه الريبة.

 

Email