أوروبا والاعترافات «القيصرية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثير من الساسة الأوروبيين يعرفون معظم تفصيلات الظلامة الفلسطينية، معرفتهم بأبنائهم وآبائهم. ففي منتدياتهم الإيديولوجية الفكرية وأروقتهم السياسية الحركية، تمت صناعة أسس هذه الظلامة خطوة بعد خطوة. وتمر هذه الأيام السنوية المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى، التي شهدت في غمرتها تلك المنتديات والأروقة ذروة التفاوض والمساومة، سرا وعلانية، حول مصير فلسطين وشعبها.

ومع انتهاء تلك الحرب، كان الأوروبيون المنتصرون فيها قد حسموا قرارهم بإزالة فلسطين وشعبها من خريطة «الشرق الأوسط»، وإحلالها بكيان استيطاني آخر يتبع أهواءهم ويحرس مصالحهم. على أن قيام إسرائيل بعد ثلاثين عاما من نهاية تلك الحرب، وما صاحبها من مخططات جهنمية، لم يكن الكلمة الأخيرة في المسألة الفلسطينية كما تصور الأوروبيون، الصهاينة منهم خاصة.

فقد كان طي فلسطين وتقعيد إسرائيل في عام 1948، مجرد فصل افتتاحي في ملحمة طويلة، ظلت لوحاتها الدامية تطارد الأوروبيين وتخز ضمائرهم وتؤرق مصالحهم وعلاقاتهم بجيرانهم في جنوب المتوسط، وتستفز مناظراتهم السياسية وغير السياسية على مدار الساعة.

البطل الحقيقي في هذه الملحمة كان الشعب الفلسطيني، ومن ورائه القوى العاطفة على حقوقه بكل المعاني الانسانية والحضارية والحقوقية، إقليميا وعالميا. استعصاء الفلسطينيين على ظواهر من قبيل الانكسار والهزيمة والأفول والانزواء والذوبان، هو العامل الجوهري في عودة الجدل المتعلق راهنا بظلامتهم إلى الأوساط الأوروبية.

تربط إسرائيل، الفكرة والدولة، بأوروبا والأوروبيين صلات ووشائج عضوية. اسرائيل تحمل في عروقها الجينات الأوروبية على أكثر من صعيد وبأكثر من معنى ومفهوم. يقول فقه الاستعمار والتحرير بأن الكيانات الاستيطانية تراوح بعد قيامها واستقرارها النسبي بين وجهين وتيارين، أحدهما يشدها إلى القوى الدولية الأكبر والمواطن الأم التي أنشأتها، ثم أسبغت عليها الرعاية والحماية وأمدتها بمصادر القوة والمنعة. والآخر يسعى الى الانعتاق من عقدة النشأة، محاولا الإبحار مستقلا بحسبه شخصية بلغت الرشد، وينبغي أن تتحرك بقوة الدفع الذاتي وتتحرر من التبعية.

ومن ناحية أخرى، يذهب هذا الفقه إلى أن الدول والمواطن الأم لا تتخلى بسهولة عن الكيانات التي استزرعتها في عوالم الآخرين، حتى وإن ووجهت منها بالجحود ومظاهر التمرد. لهذا كله ونحوه، ليس هينا على الأوروبيين اتخاذ قرارات من شأنها المساعدة على إعادة فلسطين والفلسطينيين إلى مدارات الوجود الدولي، جغرافيا وسياسيا.

والمؤكد أن الصهاينة الاسرائيليين لا يستوعبون بسهولة صدور مثل هذه القرارات، باعتبارها مناقضة للعهود والأواصر التي تجمعهم بدول القارة العجوز. ويزداد غضب الاسرائيليين حين تأتي الاعترافات الأوروبية المتوالية بالدولة الفلسطينية، بدون سابق تشاور معهم أو مراعاة لاشتراطاتهم المحبطة.

نود القول بأن هناك مبررات جادة للمناظرات الأوروبية واسعة النطاق، التي تحف بقضية الاعتراف بفلسطين، الأمر الذي تتجلى معالمه في إطلال هذا الاعتراف وخروجه على المعنيين عبر أنماط متباينة نسبيا..

ففي مقابل الوعد الرسمي الصريح بهذه الخطوة من لدن الحكومة السويدية، أفصح البرلمان البريطاني عن قناعته بصحة إصدار وعد مماثل، لكن هذا البوح جرى عبر طريق التفافي وبشكل غير رسمي وغير صريح. وبين هذين النمطين وقفت الحكومة الفرنسية في منطقة وسيطة!

هناك مؤشرات أخرى على هذه المقاربة الاستحيائية والولادة العسيرة شبه القيصرية للاعتراف الأوروبي بفلسطين.. فالظاهر حتى اللحظة، أن الأوروبيين يباركون حل الدولتين بصفتهم الاتحادية، لكنهم حين يعالجون مسألة الاعتراف، يتسللون آحادا منفردين ومتفرقين.

وبالنظر إلى ضفيرة معقدة من المحددات الضاغطة المحيطة بمواقفهم الفلسطينية، فإن هؤلاء لا يلامون على هذه المقاربة الوجلة المتلصصة؛ التي ترددوا دهرا في الإقدام عليها. نحن أمام حالة ولادة شديدة العسر...

ولكن طالما أن دولاب اعتراف الأوروبيين بفلسطين سيساهم في انتشالها بقوة من التيه السياسي والجغرافي الذي كانوا أبرز صناعه، فإن الفلسطينيين والعرب مطالبون بأن يستحثوهم ويشجعوهم ويشدوا على أياديهم، وربما تعين علينا أن نتعامل معهم من منطلق تقاليدنا الحضارية الروحية، التي تقول إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

 

Email