المثقف في تراجعه وحيرته

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا نطرح قضايا المثقف في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة في مصر والإقليم العربي، الذي يبدو وكأنه على مشارف تغيير في خرائطه السياسية والدينية والمذهبية والثقافية؟ ثمة عديد الأسباب الدافعة لدرس مسألة المثقف والنخبة المثقفة، وأزماتهم التاريخية والراهنة في أعقاب التغيرات التي حدثت بعد ما أطلق عليه مجازاً الربيع العربي المجهض؟ أستطيع أن أذكر بعضها تمثيلاً لا حصراً، في ما يلى:

1- تراجع أدوار بعض المثقفين في المجال العام، كنتاج لبعض اليأس من ضعف الفعالية والنفاذية، والقدرة على التأثير على عملية صناعة القرارات السياسية والثقافية والاجتماعية على اختلافهما.

2- بروز بعض الفجوات بين المثقفين وقطاعات جماهيرية عريضة، كنتاج لانتشار الأمية بمختلف أنماطها، ومن ثم أدى ذلك إلى ضعف حضورهم المجتمعي. 3- لا مبالاة بعض دوائر الصفوة السياسية بآراء المثقفين، لا سيما عند قمة النظام السياسي التسلطي قبل 25 يناير 2011 وما بعدها في المراحل الانتقالية - وقادة الأجهزة البيروقراطية، واعتبارهم ليسوا ذوي خبرة بثقافة الدولة وتقاليدها وأساليب عملها.

ومن ثم تعتبرهم الصفوة والبيروقراطية مثاليين ومفارقين للواقع، ومنفصلين عن الجماهير، وبعضهم يرون المثقفين كقوة مثيرة للغليان والأسئلة والاضطراب، ويشككون في شرعية الحكم، ومن ثم أصبحوا قوة هامشية ومستبعدة، لا سيما بعد فشل دور بعضهم في الأحزاب والائتلافات السياسية، التي تشكلت في المراحل الانتقالية الأولى، والثانية، والثالثة المستمرة حتى الآن.

البعض الآخر من الثقاة البارزين لم يشاركوا في اللعبة السياسية الانتقالية، وظلوا على مسافة مما يحدث في إطارها، وشكلوا موقفاً نقدياً من جميع الفاعلين السياسيين على اختلافهم، وهؤلاء تنتاب بعضهم حالات من العزلة وبعض من الاغتراب.

4- نكوص بعض المثقفين عن أداء أدوارهم النقدية والتحليلية للظواهر السياسية والدينية، ورجوعهم إلى مواقعهم الأكاديمية والبحثية. 5- استمرارية الهجمة الأصولية، ومنطق فرض الوصاية الدينية على الإبداع والإنتاج الثقافي، من قبل القوى الإسلامية السياسية، وبعض مشايخ الأزهر والحركة السلفية، وذلك في مسعى للهيمنة على الحقل الثقافي والإبداعي، حتى بعد أحداث 30 يونيو 2013.

6- تهميش السلطة السياسية والمؤسسة الثقافية الرسمية لبعض المثقفين النقديين وتوظيفها للموالين قبل 25 يناير ولايزال بعض من هذه السياسة مستمراً بعدها! - عبر آليات الجوائز والسفر، وإسناد المواقع القيادية للمؤسسات الثقافية الرسمية، وهو ما كرس شيوع الإحساس باللاجدوى واليأس لدى قلة قليلة من أرفع المستويات تكويناً وإنتاجاً وموهبة. 7- انصراف بعض المثقفين والمبدعين للتركيز على ثقافة الجوائز والمهرجانات والاستعراضات والندوات.

ولا شك أن ظاهرة الجوائز التي انتشرت خلال المرحلة الماضية، أدت إلى تكالب بعضهم عليها، بالإضافة إلى تأثيرات ذلك على عملية الكتابة الإبداعية التي يراعى فيها بعض متطلبات وشروط الحصول على هذه الجوائز، وهو أمر يشابه في بعض آثاره السلبية، مراعاة بعضهم في عمله شروط النصوص الإبداعية التي ترشح للترجمة إلى اللغات الأجنبية.. 8- لاتزال ظاهرة الإزاحة الجيلية للمثقفين والمبدعين الشباب مستمرة، وذلك لصالح استمرارية سطوة المثقفين من الأجيال الأكبر سناً، على المؤسسات الثقافية، وعلى السلطة النقدية التي لايزال بعض أهلها يتعامل بانتقائية واستعلاء مع الإنتاج الإبداعي.

ثمة بعض من النقاد الكبار يحتضن الإنتاج الإبداعي للمبدعين الشباب، ولكن من خلال مقاربات نقدية باتت تقليدية، ومن ثم يفرضون أذواقهم وانطباعاتهم النقدية على أعمال تحتاج إلى مقاربات جديدة ذات ذوق وروح شابة. قلة قليلة جداً هي التي واكبت الأعمال الجديدة برؤية مغايرة وذوق نقدي يتوافق معها.

9- تَشكل بعض شبكات المصالح بين بعض من قادة وأتباع وموالي السلطات الثقافية العربية الرسمية، بحيث يديرون العلاقات في ما بين بلدانهم. لم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما تأسست شبكات أخرى من المنظمات الطوعية، سواء في الحقلين الثقافي أو الحقوقي ومنظماته الدفاعية.

10- تراجع دور بعض المثقفين النقديين لصالح دور الناشط الحقوقي والسياسي - على التداخل بين غالبهم في الأدوار والأنشطة - وبعض دور مقدمي البرامج التلفازية والفضائية.

إن صعود سلطة المرئي على المكتوب تزايدت منذ عقد التسعينيات وما قبل الربيع العربي الشاحب، وأثناء اضطراب مراحل الانتقال السياسي، والفوضى الأمنية والسياسية. أسهم في هذه الظاهرة تزايد وتأثر التطور التقني السريع في الأجهزة المعلوماتية والاتصالية المحمولة وأجيالها المتلاحقة، على نحو أدى إلى خلل في التوازن بين إنتاج الثقافة المرئية والنتّية وتلك الورقية، بكل انعكاساته على نمط المثقف والمبدع الكلاسيكي الذي عرفته الأجيال السابقة، وصوره، وإدراكه لذاته وعمله وحضوره العام.

11- تزايد وزن خبير السلطة، وخبراء المناطق الجيوسياسية والجيودينية والمذهبية، والجيوعرقية.. الخ. لا شك أن تفاقم الأزمات والحروب والعنف الديني والمذهبي وغيره، أعطى لخبراء المناطق والسلطات حضوراً مكثفاً على مستوى الإعلام المرئي والمكتوب. 12

- في ظل نهاية عصر مثقف السرديات الكبرى بتعبير ليوتار - وتراجع الإيديولوجيات والأنساق الفكرية الكبرى، تحول بعض المثقفين والمفكرين الكبار إلى دور المثقف كمنتج للثقافة العالمة، وخصوصا في ظل تراجع الإنتاج الفلسفي في بعض الدوائر الأكاديمية المحضة. 13- صعود حضور رجال الدين ودعاته ومبشريه ومؤسساتهم الكبرى، في الصراعات الكونية، في ظل كثافة وتنامي النزعات الأصولية وتمددها على عديد المستويات وما يصاحبها من عنف رمزي، ونزعات استبعادية للمغايرين دينياً ومذهبياً كرؤى وعقائد وإيمانات.

هذا الاتجاه الغالب والمؤثر كونياً، أثر سلباً على حضور بعض المثقفين في سجالات ونزاعات عصرنا ما بعد الحديث، وصيروراته العولمية، التي تعيد تشكيله بسرعة ووتائر غير مألوفة، والأخطر سقوط منظورات ورؤى ومفاهيم لم تعد صالحة لتفسير ما يحدث حولنا وبنا.

إن انكسار وتقوض بعض أدوات المثقف في تكوين رؤاه وإنتاج أفكاره، تساعد على التراجع والانكفاء حيناً لدى بعضهم. والأخطر أن ثمة نقصا في صلاحية العديد من النماذج والرؤى والمقاربات التي ينتجها بعض المثقفين، حيث تبدو مفارقة في تفسيرها للواقع الكوني الهادر بالتغييرات الزلزالية الناعمة حيناً، والعاصفة والعنيفة في عديد الأحيان. بين تراجع الأدوار والحصار وتآكل الأدوات، يبدو بعضهم في حالة من التوهان والتردد والحيرة والقلق، بينما آخرون كثر يعيدون أفكار وعوالم أفلت، ويبدو كأنهم في فضاءات من المتاهة والتردد والعجز..

Email