ثقافة »الكتالوج« والأسطوانات المشروخة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لمن لم يعايشوا أو يعرفوا عن قرب طبيعة الأسطوانة المشروخة، فإنها ببساطة، ترتبط بحقب زمنية سابقة تعود للقرن الماضي، قبل الثورة الإلكترونية والرقمية الهائلة التي يعيشها العالم في أيامنا هذه، وكان جهاز تشغيل الأسطوانات التقليدي أو »الغرامافون«، هو الوسيلة المألوفة والأكثر انتشاراً لسماع أسطوانات الموسيقى والأغاني، فإذا ما كانت الأسطوانة مشروخة أو هناك عيب في إبرة التشغيل، فإن الجملة الموسيقية أو الغنائية تتكرر من تلقاء نفسها عشرات المرات.

ورغم أن هذه الظاهرة التقنية اختفت منذ سنوات عدة، إلا أن التعبير المجازي لا يزال حاضراً بيننا حتى الآن، فنطلق على من يتحدث في الموضوع ذاته أكثر من مرة، وبنفس الطريقة، أنه »أسطوانة مشروخة«. وقد يكون ذلك كناية عن الشعور بالضجر أو الملل، أو نعتاً للمتحدث بعدم الفهم أو التفكير أو التحدث كالببغاء عقله في أذنيه.

نعاني كثيراً في مجتمعاتنا العربية، وربما في مجتمعات غير عربية أيضاً، من هذه الظاهرة، حتى على مستوى الخطاب السياسي، وربما كان من أبرز إفرازات »الربيع العربي«، تكريس تلك الظاهرة وتحويلها إلى شكل من أشكال الثقافة السائدة في خطابنا اليومي، وسادت تلك الثقافة بشكل أساسي في يوميات وأدبيات أنصار الجماعات المتشددة والمتطرفة، الرافضة للانفتاح على أي حوار فكري جاد يطرح أفكاراً بديلة أو يفند توجهات عقيمة لديهم لم تعد ملائمة للزمان أو المكان، وبدلاً من التفاعل الفكري والثقافي والسياسي المستنير، فإنهم فضلوا ترديد نفس الأسطوانات المشروخة، فكلفوا أنفسهم ومجتمعاتهم ثمناً باهظاً.

وقد دفع »الإخوان المسلمون« في مصر، على سبيل المثال، كلفة عالية لثقافة »الأسطوانات المشروخة« التي ظلوا يتبعونها، رغم المشاهد المتسلسلة التي كانت تؤكد تآكل شعبيتهم وتراجع رصيدهم لدى المواطنين.

انتشر أعضاء الجماعة وأتباعهم في كل وسائل الإعلام والقنوات المجتمعية، مرددين نفس الكلمات والجمل والتحليلات، بدون أي مراعاة للظروف المحيطة، وللغضب الشعبي المتفاقم، وأدى هذا في نهاية المطاف إلى عزل رئيسهم محمد مرسي في ثورة 30 يونيو.

وإذا كان وصف الأسطوانة المشروخة هو الأدق للحديث عن أخطاء الإخوان عشية تلك الأزمة الطاحنة، فإن انتشارهم كالجراد كان أيضاً أقرب ما يكون إلى ممارسة »الكعب الداير«، وهو إجراء أمني متبع، يتم خلاله ترحيل المشبوهين والموقوفين إلى محافظات ومدن ومديريات الدولة، للتأكد من خلو سجلهم من الأعمال الإجرامية. هكذا فعل الإخوان وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه وهم في النزع الأخير، ولكن من خلال تبني نفس الأفكار العقيمة والسياسات البالية، التي زادت من رصيد كراهيتهم، بدلاً من تقديم حلول عملية تخرجهم من المأزق.

عاش الشعب المصري مع »الإخوان« وحكمهم فترة عصيبة، نتيجة عدم خبرتهم السياسية، وممارستهم السلطة بنفس عقلية »الجماعة المحظورة«، فعجزوا عن تطوير أدائهم أو مراعاة المطالب الشعبية بتقديم تنازلات وطرح مختلف لمواقفهم الجامدة، رغم ما عرف عنهم تاريخياً من أنهم »ملوك الصفقات والتراجعات«، وظلوا يرددون ويتبنون نفس المواقف المرفوضة.

ومن بين ما رددوه آنذاك، أن الشعب المصري احتمل سياسات مبارك وحكمه وصبر على سلبياته وأخطائه لمدة ثلاثين عاماً، قبل أن يثور عليه في 25 يناير ويخلعه من السلطة، فلماذا لا يصبر على سياسات مرسي ثلاثين أسبوعاً؟!

وظل هذا التساؤل يتردد على ألسنة الإخوان مئات المرات يومياً، وكأنهم يبررون أخطاءهم في الحكم، وكأنه مكتوب على الشعب أن يتحملها بأي ثمن.

والواقع أنهم لم يلتفتوا إلى حقائق الوضع الجديد، وأولها أن الشعب الذي ثار على رئيسه لم تعد أعصابه تحتمل أخطاء جديدة بعد التضحيات التي قدمها، وإذا كان قد احتمله بالفعل ثلاثين عاماً، فإنه لم يعد على استعداد لتكرار المشهد.

وفات الإخوان أيضاً أن مبارك بالفعل كانت له أخطاء وسلبيات، ولكنه أبداً لم يجرد مصر من وطنيتها، ولم يوظف دورها لمصلحة جماعة فئوية أو دينية أو مكتب إرشاد أو تنظيم دولي، وأيضاً لم يجرد مصر من روحها المألوفة ووحدتها الوطنية الممتدة عبر آلاف السنين، وهو ما حدث في ظل حكم الإخوان، حيث قسموا البلاد طائفياً ودينياً، بل ومذهبياً أيضاً، وعرفت مصر خلال تلك الفترة، ربما في مرة نادرة عبر تاريخها، القتل على الهوية، مثلما حدث في جريمة »أبو النمرس« في محافظة الجيزة، حيث تم ذبح أسرة شيعية، بعد تحريض صريح من قيادات إخوانية وجهادية.

وأخطأ الإخوان مرة أخرى عندما لجؤوا لتكرار أسطوانات مشروخة، لتأكيد فكرة عدم جواز خلع رئيس منتخب إلا عن طريق الصندوق، بغض النظر عن ممارسات هذا الرئيس.

والواقع أنهم لم يقرؤوا التاريخ الحديث والمعاصر أو بعض وقائعه بشكل صحيح، فحتى الرؤساء المنتخبون في أعتى الديمقراطيات الشعبية، يجوز عزلهم بوسائل متعددة، بعيدة كل البعد عن الصندوق قبل أن يستكملوا فتراتهم الرئاسية، إذا ما واجهتهم اعتراضات جماهيرية أو فشلوا في تحقيق طموحات شعوبهم أو سقطوا في مخالفات قانونية ودستورية، حدث هذا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تم خلع الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون عام 1974 وهو في السنة الثانية من فترته الانتخابية الثانية، وكذلك تم عزل إلياس أبو كرم رئيس إكوادور، والبرتو فوجيموري رئيس بيرو، بسبب سياساتهما الفاشلة، وتم إقصاء أكثر من أربعة رؤساء في الأرجنتين خلال فترة زمنية وجيزة، وجميعهم لم يستكملوا فترات حكمهم.

وكان على الإخوان أن يستفيدوا من دروس التاريخ الماثلة أمام أعينهم، بدلاً من الاكتفاء بترديد أسطوانات مشروخة حول عدم جواز خلع الرئيس المنتخب، أياً كانت سياساته وتصرفاته، إلا بالصندوق! إنها ثقافة الأسطوانات المشروخة التي جعلت عقول الإخوان في آذانهم، يسمعون ولا يفهمون، فدفعوا، والبلاد معهم، ثمناً باهظاً لتلك الثقافة العقيمة، ولا يقل خطورة عنها ثقافة »الكتالوج«، وهذا حديث آخر.

Email