عوالم السايكوبات

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ورشة عمل داخلية بإحدى المؤسسات وقف موظف جديد يعرض فكرته المبتكرة لتطوير بعض الإجراءات تحسيناً للعمل وللخدمة المقدّمة للعميل، ولجمال الفكرة وقف أحد المديرين ليمتدحها ويشكر صاحبها الشاب الذي شعر أنّ حماسته تزداد اشتعالاً لخدمة مؤسسة كهذه تُقدر الإبداع وتتمرد على النمطية القاتلة.

ولأن «الحلو ما يكملش» فقد أتت الصفعة التي توقظ هذا «اللي عامل فيها فاهم» من مديره المباشر عندما عَلِمَ بأن ذلك المدير قد امتدح فكرة موظفه، وبدلاً من شكر هذا الشاب الذي بادر واجتهد وفكّر بعيداً عن نمطية الدينصورات، إذا به يقول مستغرباً ومتهكماً بزميله: «فلان شو شارب على الصبح؟»

مدير آخر يرفض تمرير معاملات لمراجعين عند سكرتاريته ثم يقول لهم: «لا تقولوا للمراجعين إنّي أنا اللي رفضت، تصرفوا!»، فالمهم أنه يظهر بمظهر جيّد أمام الآخرين حتى وإن كان خلاف ذلك في باطنه، وموظفوه لا يعدوا أن يكونوا أداة يتقي بها وجع الرأس والإحراج أمام المراجعين ودورهم يجب ألا يخرج كثيراً عن تلميعه و«هز الرأس» بالموافقة التامة لكل ما يقوله حتى لو كان خطأ وهناك ما هو أولى منه وأصوب، ومن لا يعجبه هذا المسلك فلن يحصل على تعديل راتب أو ترقية حتى «تتعقّص الرخمة».

ولا مانع أن يتّسع نطاق مهام الموظف ليشمل التجسس على زملائه واختلاس النظرات على المكاتب لمعرفة من يتواجد بها وماذا يعمل، وعندما رفضت موظفة تلك المهمة، التي يبدو أنه عليها سيكون مدار تقييمها الوظيفي السنوي، وطلبت النقل لإدارة أخرى بُعداً عن هذه العقليات السايكوباتية أتاها زميل لها ليحذرها بأن من لا يُطيع فلان «أي مديرها» فإنه سيمسح به الأرض!

هناك محاولات صادقة من كثير من قيادات المؤسسات الخدمية لتطويرها وتحسين إجراءاتها ومسايرة التطور الذي ترتفع وتيرته في بلادنا يوماً بعد يوم والحمد لله، ولكن البلاء يختبئ في مستويات أدنى في الهيكل التنظيمي، من بعض السايكوبات الذين وجدوا أنفسهم فجأة وبطريقة أو بأخرى في مركز سلطة، فبدأوا بتهيئة بيئة تسمح لهم بالحركة والتقلّب في النعمة دون «تغصيص» من آخرين أكثر جدارة بالمكان.

فتكون البداية بتهميش شطر من أصحاب الأفكار لوظائف دون مسؤوليات، ودفع الموهوبين أصحاب الكاريزما والقبول لدى زملائهم للرحيل عن الإدارة دفعاً أو طلب نقلهم من المسؤول الأكبر بحجة أنهم يربكون العمل ولا يقبلون الالتزام باللوائح والقوانين وتعليمات سعادته، وفي الغالب لا يجرؤ هذا السايكوبات على انتقاد إنتاجية هؤلاء المبدعين لأنه يعرف أنه سيخسر بالضربة القاضية منذ أول جولة.

لذلك يكون الافتئات واختلاق خطايا وتجاوزات لا علاقة لها بالإنتاجية، ولو فكّر المسؤول الكبير قليلاً لتيقن من تلفيق تلك التهم، إذ لا تستقيم الإنتاجية العالية لذلك الموظف وتلك الأمور التي يوصم بها زوراً و بهتاناً.

إن المدير السايكوبات لا يُعاني من اضطراب نفسي فقط بل هو خلل في وظائفه العقلية، وهو الخلل الذي يجعله يرى خطأه صواباً واساءته للآخرين قصاصاً عادلاً و«تصفيته» للمبدعين سدّاً لذرائع الفوضى في إدارته وعدم احترام قراراته، وبالنسبة إليه فأن تُنجِز عملاً عظيماً لا يعني شيئاً إذا لم تكن قد قمت بالعمل كما جرت العادة أن يُؤدى به حتى لو كان الأسلوب القديم قاصراً وعفى عليه الزمن.

ولا معنى لأن تحضر للعمل خلال إجازة نهاية الأسبوع وتتأخر في أداء عملك حتى ساعات متأخرة من اليوم إذا كنت قد تأخرت خمس دقائق عن موعد «البصمة»، فمديرو الـ«سبع ونص» والذين يبدع بعضهم وهو يتصل بكل موظفيه أول الدوام كإثبات أنه «كشفهم» وضبطهم متلبسين بجُرم التأخير، هؤلاء آخر همّهم تطوير الخدمات التي يقدمونها، فالمهم هو أن «يبصم» جميع موظفيه أول الصباح ولا مشكلة بعدها إن كان أقصى إنتاجهم قراءة الملحق الرياضي أو لعب لعبة الطيور الغاضبة أو التجوال بين مواقع بيع الشنط والأحذية.

النجاح ليس صعباً لكن البعض يحاول تصويره بأنه أمر معقد، وهو كذلك بالنسبة إليه لأن الفاشل لا يعرف النجاح أصلاً، لذلك يستفز العاقل تلك المصطلحات المعقدة التي يستخدمها البعض في الاجتماعات لجعل أي أمر يبدو كصنع قنبلة نيوترونية، فما يحركه أن لا يتحرك المحيط الذي هو فيه، فالتغيير مرعب بالنسبة إليهم.

ومن يكون سبباً أو عاملاً مساعداً لإيجاد هذا التغيير الذي يزعزع أركان منطقة الأمان لهم فهو شخص لا بد من إبعاده أو كتم أنفاسه على الأقل، وما دام هذا الفكر موجوداً في مؤسساتنا فإن كل رؤى التطوير والتحسين ستأخذ وضعية الـStandby حتى يتغيّر هؤلاء.

فمهما كان المحرك قوياً وجديداً فإنه لن ينفعك إن كنت تملأه ماءً بدل الوقود، ولن يكون بمقدورك تجاوز الآخرين إن كان يخذلك بعض من تظنهم قادرين على تطوير عمل وهم لا يقدرون على كتابة سطر إلا بمساعدة السكرتير.

إن الحقيقة مُرة كمرارة الدواء وأحياناً مؤلمة كمبضع جرّاح لكنها تشفي، والخطيئة تكون عندما نركز جهودنا في محاولات يائسة لتجنب الألم الذي لا تزيده الأيام واختلاف معطيات الواقع وازدياد شراسة المنافسين من حولنا إلا قوة، وفي عالم التنافسية لا يكفيك من يجري فقط بل تحتاج من يحلّق بك بعيداً، فكيف بمن هو واقف أصلاً وفوق ذلك هو معجب بنفسه على «خيبته»، وكلما رأى من حوله أحداً يصفق لموهوب يريد غداً أجمل لمؤسسته وضع رجلاً غبراء على رجل وقال: فلان شو شارب على الصبح.

Email