نخب الاضطراب والوعظ السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو مشاكلنا الكبرى في التاريخ الحديث والمعاصر، غائبة في غالب الخطابات السياسية قبل 25 يناير 2011، وما بعد العملية الثورية التي اعتراها الانحسار والوهن، والتشويه وإدخالها إلي مجال نظرية المؤامرة وثقافتها الخاوية.


في هذا الإطار والسياقات، تعيش النخب المصرية ومعها الأجيال الجديدة الغاضبة، والتي عاد بعضها إلي دوائر اللا سياسة، والإحباط- لحظة انتقالية صعبة واستثنائية مترعة بالاضطراب والغموض، وعدم اليقين، وتنامي حدة الانقسامات الاجتماعية الرأسية، وانكسار بعض الموحدات القومية، علي نحو يسهم في شق النظام الاجتماعي، ونمو وتفاقم النزاعات التأويلية العنيفة المتشددة والحادة حول الدين والدولة والسياسة ومنظومات القيم والهويات المتصارعة، وعلاقة الإسلام والمسيحية بالسلوك "الفردي".

من ناحية أخري تغيب، وتغيم علاقاتنا بتاريخنا، والتعامل اللا تاريخي معه، بل والصراع عليه وبه في الصراعات الدينية والاجتماعية المحتدمة، والأخطر شيوع بعض الضبابية والغموض في رؤيتنا لأنفسنا ولعالمنا، وهوياتنا، علي نحو أثر سلبياً علي التصورات المضطربة لكيفية هندسة حياتنا، وإعادة تنظيمها وإدارتها علي نحو يسام في تعبئة بعض من مواهبنا القليلة، وقدراتنا وطاقتنا الجماعية الواهنة.


إن متابعة المشهد العام المختلف، الذي يسيطر عليه بعض "المديوكر"، و"المنيوكر"، من محدودي الموهبة والكفاءة تشير إلي أنهم يسهمون في إزاحة الكفاءات والمهارات المصرية الشحيحة والنادرة، كنتاج لعقود من التجريف واغتيال الأجنة الموهوبة، والقمع السلطوي الغشوم.

يبدو كأننا نعيد إنتاج الأزمات التي أدت إلي الفجوات التي اتسعت بين الأجيال، والتي تتمدد علي نحو يبدو وأن ثمة طلاق سياسي، وجيلي خطير يسهم في تفاقمه عودة الإعلام التعبوي- العام والخاص- وسيطرت أصوات زاعقة، تشيع الضجيج، وتشوه الإدراك شبه الجمعي للمصريين، مما يساعد علي تفاقم خطورة السياسة الإعلامية السلطوية الغوغائية، وخلط غالب مقدمي ومعدي البرامج بين وظائفهم ودورهم المهني وبين دور النشطاء السياسيين، ويخايل بعضهم أنه بات يلعب دور المرشد السياسي والديني للمصريين.


أن نزعة الإرشاد السياسي والأخلاقي- ذات الخلفية الدينية- لم تعد قصراً علي بعض مقدمي البرامج، والصحفيين، وإنما امتدت إلي غالب ما يطلق عليهم مجازاً النخبة السياسية في الحكم الانتقالي، أو في الأحزاب الهشة ومحدودة العضوية، وسطحية البرامج والخطاب، ومحدودة المهارات، وضحلة الخيال السياسي، ومحدودة المعرفة العلمية بمصر، وإقليمها، وعالمها المتغير.


أن ظاهرة الإرشاد السياسي والديني والأخلاقي، تبدو الوجه الآخر لما سبق أن أطلقنا عليه سياسة اللا سياسة التي عدنا إليها بسرعة، بعد أن شكلت العملية الثورية الجزئية والمجهضة إرهاصة بإمكان الخروج من دائرة موت سياسية.


أن ظاهرة النوستالجيا السياسية، والحنين إلي بعض مراحل تطور التسلطية السياسية، دونما تقويم نقدي لبعض هذه المراحل هو تعبير عن رغبة عمياء لدي بعضهم لاستعادة زمن مضي ولن يعود قط! نزعة النوستالجيا لا تاريخية بامتياز وتكشف عن عمق أزمتنا الوجودية الحادة، في الهروب إلي بعض المراحل التاريخية بحثاً عن أمان ما مفتقد في الحاضر، وهي نزعة لا تختلف قط، عن العقل الديني التقليدي والمغالي الذي يرمي إلي القطع مع الحاضر بكل محمولاته وقيوده وتطوراته وآفاقه غير المحدودة، إلي بعض مراحل تطور تاريخنا الديني والسياسي. إنها نزعة خلاصية ترمي إلي الهروب من مواجهة أزمات وإشكاليات وتحديات اللحظة التاريخية الحرجة، ومراحلها الانتقالية المضطربة والخطيرة.


أن سعي بعضهم من أجل إعادة المرحلة الناصرية في المخيال الجماعي، والسعي إلي ولادة ناصر جديد، تبدو بمثابة محاولة فاشلة لاستنساخ القائد الوطني الكبير، ورجل الدولة الكاريزمي، في غير زمنه وسياقاته، وتوازناته في النظام الدولي ثنائي القطبية، والحرب الباردة، وعالم عدم الانحياز، وحركات التحرر الوطني ورأسمالية الدولة الوطنية.

انتهي هذا العالم وأقاليمه الفرعية وقواعد عمله وشروطه، الآن نحن في عالم معولم، تتحطم خلال عملياته قواعد وأبنية وهياكل وسياسات، ورؤي، وانكسرت الحدود، وتتراجع الدولة القومية، وبعض مفاهيمها الأساسية، في ظل صيرورات عولمية متسارعة ومكثفة.
كيف يمكن استعادة ناصر وتجربته التاريخية في عالم غير عالمه، بينما أوضاعنا مضطربة، ولا توجد رؤي سياسية تتسم بالأصالة والانفتاح والعمق والمعرفة والتجارب الرائدة في عالمنا، ولاسيما آسيا الناهضة؟


حنين سياسي غامض في مواجهة استمرارية "سياسة اللا سياسة" كما سبق أن كتبنا مراراً، في ظل منولوجات خطابية بائسة تدفع الأمور إلي سياسة اللحظة بلحظة كتعبير عن غيابنا عن زمن اللحظة التاريخية العولمية، وتحولات الاهتمامات السياسية والاستراتيجية نحو آسيا المتطورة، الصين والهند وكوريا وسنغافورة.

نخب الانتقال المتعثر تبدو غائبة عن لحظة الإقليم المضطرب والمحتقن، حيث يتحول الإسلام السياسي إلي قوة قتال عسكري منظم وقادر، ويسيطر علي أراض داخل عديد الدول في المشرق العربي، بينما تبدو دولة ما بعد الاستقلال في هذه المنطقة هشة، وضعيفة وغير قادرة علي السيطرة علي جميع مناطق الدولة، وحيث تبدو بعض الجيوش محدودة الكفاءة والتدريب والخبرات رغما عن عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقت علي جيوش طائفية ومذهبية ومناطقية.


عالم عربي يبدو غائباً في تعقيده وتركيباته الأولية ومتغيراته، عن ذهنية ومعرفة ووعي نخب الانتقال السياسي المتعثر في مصر، وهو ما يسهم في غياب الرؤية وتشوش أساليب العمل لمشكلات الإقليم. نمط مضطرب ومشوش من كتابة الفوضي في الصحف، وخطابات من السجال السوقي في الإعلام المرئي. حالة من صخب الكلمات، وتناقضات وسطحية الخطابات الشفاهية وعنفها المفتوح، ولغة التعميمات المرسلة والانطباعات الانفعالية السانحة.


ثمة ندرة للتشخيصات التحليلية الجادة والموضوعية للاعتلالات الهيكلية التي تواجه الدولة ونظمنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، حيث لا تزال التسلطية السياسية والدينية مسيطرة في الدولة وأجهزتها الإيديولوجية، والأمنية وغيرها.


هذا الغياب للعمق المعرفي في تعاملنا مع شئوننا وتاريخنا وأفكارنا، تشير إلي أزمة نخب ما قبل 25 يناير 2011 ونخب مراحل الانتقال القديمة والجديدة. لا تزال الشيخوخة الفكرية والسياسية والجيلية هي الشائعة، وقلة قليلة هي التي كسرت معتقل شيخوخة الأفكار والرؤي والحس والخيال السياسي، وتحررت من القيود الإدراكية، وأساليب التفكير السياسي التي فرضها هذا المعتقل الخبراتي.

إلا أن بعض المجموعات الجيلية الجديدة في غالبها جاءوا من أعطاف سياسة التجريف السياسي وتجريف الكفاءات طيلة أكثر من أربعين سنة مضت. إن حالة الاختلال في الفكر السياسي السائد، لا تعني قط أن مقتضيات مراحل الانتقال وضغوطها تتطلب نسيان تجربتنا التاريخية مع التحديث المبتسر، والحداثة المغدورة، لأن عدم استدعاء هذه التجربة التاريخية وتقويمها نقدياً، سيؤدي إلي عدم قدرتنا علي مواجهة تحديات عاتية تواجه الدولة والمجتمع، والأخطر ستؤدي إلي إعادة إنتاج مشكلات وأزمات معقدة. وللحديث بقية.

Email