محمد بن زايد.. كما نعرفه

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتناول أحدنا قهوته المفضلة مع رفاقه لتصله رسالة بزيارة لسمو الشيخ محمد بن زايد لمريضٍ لا يعرفه أحد، وتمضي بنا الخُطى في ردهات المجمعات التجارية ورسالة أخرى تصل بحضوره لعزاء أيتام لم يلتفت لمصابهم أحد.

ويسرع بعضنا من موقف سيارته إلى مدخل المبنى المكيف وهو يتأفف من الحر ليمر بصره بشاشة تلفاز تعرض تجوال بو خالد بين القُرى والمناطق النائية، ويتبرّم موظف صغير بمراجعٍ أمامه وبقصر البطين يجلس «بو خالد» يومين كل أسبوع لحوائج الناس وطلباتهم في صبرٍ لا يُجارى وابتسامة حانية لا تفارق مُحيّاه، لم نفتقده يوماً حيث نحب ولم يتأخر يوماً كلما احتاجه إخوانه وأبناؤه، فأحبه الناس وبادلهم الشعور ذاته.

لست هنا في صدد تعداد مناقبه فلن استطيع مهما حاولت، ولكن لمناقشة تلك الحملة المسعورة التي حمل راياتها بعض من يُسمّون بالنُخَب الثقافية والذين أصمّوا آذاننا ردحاً من الزمن عن المثاليات والقيم العليا حتى ظنناهم بقيّة السلف الصالح، فلما دارت الأيام وخرجت خفايا النفوس رأينا ذلك السقوط الذريع لهم .

ونحن نراهم يقفزون من موقف إلى آخر كالزئبق، وضربنا أخماساً بأسداس ونحن نشاهد نقيض ما ملأوا به صفحات الكتب التي تصنّعت اليوتوبيا الأفلاطونية طويلاً، ثم وجدناهم سبّاقين لتلفيق التُهَم ومسارعين لترويج أي شائعة ما دامت ستمس شخص مُخالِفِهِم.

ولأن «بو خالد» كان رأس الحربة في رفض تلك الأجندات الحزبية التي قفزت على أكتاف الفقراء والبسطاء فجأة لتمرير طموحاتها في السلطة كان الغضب عليه يتحرك بسرعة الضوء، وتمالأت قلوب «الرفاق» على شن واحدة من أحقر حملات التشويه التي مرّت بنا، كل ذلك لنعي جيداً معدن أولئك الذي كنا نتوسم في بعضهم الخير والعقل في الماضي قبل أن نصحو على واقعٍ مرير وصدمة للمستوى الذي باستطاعتهم النزول إليه في الخصومة.

«بوخالد» رفض أن يتم سَوقنا لنعيش في غيبوبة لا نصحو منها إلا بعد أن نجد أحلام فئةٍ بعينها قد وأدت حلم دولة المؤسسات والمواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية التي لا تلغي طوائف من أجل طائفة بعينها ولا تختصر الأوطان في أشخاص بعينهم، والتي ظهرت حقيقتها إثر سقوط ذلك المشروع الأُحادي الذي خلع على نفسه رداء الجميع.

لنجد أنفسنا أمام أقلامٍ فقدت السيطرة على نفسها وأخرجت كبت سنين الاستبداد السياسي في بلدانهم ليقذفوا بنبال الكره من ناوأهم دون وجود منطق متزن يثوبون إليه أو مقارنة سليمة تبرر انفعالهم، وهو أمرُ طالما تسبب بدمار أُمم كما نُقِلَ ذلك عن المؤرخ الروماني سالوست بأن انهيار روما كان بسبب خروج «جيل عاجز عن أن يملك وناقمٌ على من يملك»، فلا هم ملكوا القدرة على إصلاح الموجود ولا تركوا من هو أقدر منهم يقوم بذلك!

كانت لسمو الشيخ محمد نظرة مختلفة عندما «تعمَّم» الكثيرون وتشدقوا بالديمقراطية وكأنهم يملكون برامج فعلية أنضجتها التجارب والسنين وهم لا يقبلون بتطبيق ذلك في منازلهم أو تعاملهم مع الآخرين حولهم، وفي فورة ذلك الاندفاع لشعوب العرب كان سموّه يؤكد أهمية التعقّل وبأنّ الإمارات مع خيارات الشعوب وصالحها.

وهي الخيارات التي تقوم على العقل والاتزان ومراعاة الصالح العام لا الفئوي ولا النزق الآني الذي لا ينظر أبعد من قدميه وكأنه يعيش بجزيرة نائية لا تتفاعل مع محيطها والذي يجعل المجتمع بأسره عرضة انهيار الداخل وضغط الخارج.

وهو أمرٌ ينبِّه لمثله غوستاف لوبون في كتابه (الآراء و المعتقدات) قائلاً: «عندما لا تُسكِّن التربية والتقاليد والقوانين الاندفاعات الشديدة للشعب، فإنّ الشعب الذي هي فيه لا يُصبح فريسة لزعماء الفتن وحدهم بل يكون معرضاً لغزو الشعوب المعادية التي تعلم كيف تستغل قوة الحس والانفعال فيه».

لم يترك هؤلاء شائعة إلا وروّجوها ولا أُكذوبة إلا وطاروا بها فرحاً، وكأنهم أصيبوا بغشاوة على أبصارهم ليُسقِطوا إرثهم الديكتاتوري في بلدانهم علينا حيث لا يكبر إلا الفقر ولا يتسع إلا الجهل ولا يسحق إلا الإنسان، ولو صدقوا لرأوا أن الإمارات على صغرها وحداثتها هي ثاني أكبر اقتصاد عربي والذي تضاعف 231 مرة منذ التأسيس، وأن «بو خالد» كان عرّاب أيقونات غير مسبوقة اقتصادياً وعلمياً.

فمن مصدر ومشاريع الطاقة النظيفة إلى المفاعلات النووية ثم معاهد التكنولوجيا التطبيقية والثورة «الواعية» و«المثمرة» التي قادها سموه في تطوير المؤسسات الحكومية ومناهج وتقنيات التعليم تحديداً .

وهي أمور تدل على بُعد نظرته وصدق رغبته في خلق غدٍ أفضل لبلده وشعبه، ولطالما عرفنا بوخالد في اجتماعاته ولقاءاته وهو يناقش كل شيء ويثير الأسئلة ليحفز من حوله على التفكير إعلاءً لشأن التفاعل الإيجابي بدلاً من عقيدة التلقي السلبية، فلم يسبقنا الآخرون إلا لأنهم أعلوا شأن الفكر ورسموا للغد طريقاً.

بينما ما زال العقل العربي لا يملك عينين إلا للخلف ليتباكى على الأيام الخوالي، ولا يحمل صاحبه إلا وصفة علاج تجاوزها الزمن، وإن عارضته بذلك أقحم الدين في الموضوع كنوعٍ معروف من أنواع الإرهاب الفكري لدى من لا يقوى على النقاش أو يحمل حلولاً منطقية ناجعة.

هنا لا أوجّه مقالتي لتلك النخب المتلونة ولكن أخاطب من ما زال يحترم عقله بأن يتثبّت وأن يرى الأمور بنفسه لا تبعاً لرأى آخرين عرفوا كيف يستغلون نظرية القطيع جيداً، ففي أبوظبي يرتفع الأذان من قرابة ثلاثة آلاف مسجد وتنتشر مراكز تحفيظ القرآن ويأمن الناس على أنفسهم وأرزاقهم، وحيثما سألت لن تجد إلا ذلك الحب لـ«بو خالد» فقد أخلص لأهله وأحبهم .

فبادلوه الشعور ذاته، وأينما رأيت لن ترى إلا أياديه البيضاء تنثر الخير أنّى ذهبت، ومن طاب فعله هنا ونشر نوره لن يختلف ذلك النور ظُلمة في الخارج إلا في عيني الأعمى فقط.

 

Email