في البدء كانت رؤية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرون هم الذين يبحثون عن سر التجربة الإماراتية، وكثيرون هم الذين أعياهم التحليل والتفسير لأسباب نجاحها وتميزها، هل هي الوفرة المالية أو الانفتاح على العالم؟ أم هو ذلك التناغم والتماهي بين القيادة والشعب؟ أو هي حالة التسامح وقبول الآخر التي جعلت الإمارات واحة للسلام؟

أم هو الإعلاء من قيمة الإنسان التي تجعل قيادته لا تألوا جهدا في إرسال طائرة خاصة لإغاثة ملهوف أو من تقطعت به السبل أو حالت الظروف بينه وبين العودة إلى الوطن؟ الحق أن هذه الأسئلة تداعب فكر الباحثين والدارسين والمعنيين بمجال التنمية، كلما ظهر على السطح حديث عن التنمية والسبيل إلى الارتقاء على سلم الرفاه والتحضر.

ولا شك أن كثيرا من العوامل السابقة التي تم طرحها على درجة كبيرة من الصواب، غير أنه فات هؤلاء وأولئك أن السر الحقيقي في قوة التجربة الإماراتية في التنمية، هو «وضوح الرؤية» وما تشتمل عليه من محددات، تلك الرؤية التي لا توجد في قاموسها كلمة «المستحيل»، وتتحدث عن تحقيق الحلم كأنه واقع تستطيع أن تلمسه بيديها وترى صورته شاخصة رأي العين، تبث تلك الروح الإيجابية من حولها فينصهر الجميع في بوتقة واحدة كأنهم جسد واحد يساند بعضه بعضا.

ولا شك أن وضوح الرؤية هو الدافع للإنجاز، بل إن قطع نصف الطريق إلى تحقيق الهدف يحدده وضوح الهدف ذاته، وهذا حال كل عمل منظم.

ففي الحروب يحدد القائد الأعلى للقوات المسلحة ما يمسى بالقرار الاستراتيجي للحرب، والذي يعني الغاية من شنها، وعلى أساسه تعبأ القوات وتتحرك الجيوش ويقيّم الأداء، وإذا كان ذلك يحدث في المعارك العسكرية فإنه يحدث كذلك في معارك البناء والتنمية مع اختلاف الجبهات، بل وعلى أساسه تتحرك جنود البناء وكتائب التنمية لتعزف لحناً واحداً دون تداخل أو نشاز.

لذلك كان من المنطقي أن يبدأ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أطروحاته الفكرية بعنوان «رؤيتي»، تلك الرؤية التي أجملها بين دفتي كتابه، كما يفصلها لأبناء الإمارات وغيرهم من رجال البناء في العالم العربي كلما واتت الفرصة لذلك.

ومنها جلسة العصف الذهني التي ترأسها سموه مع فريقه منذ أيام قلائل، والتي كشفت عن جوانب مهمة من تلك الرؤية التي تعظم من قيمة الإنسان وتراه محور التنمية والضمانة الحقيقة للحفاظ على مكتسباتها، وأن الاستثمار في بنائه هو أعظم الاستثمارات وأكثرها عائدا.

لأنه بالفكر تصنع التنمية الحقيقية، لا بالمال وحده، وأن العالم يتقدم ويعيش بأفكار أبنائه، لذلك فإن الثقة التي حرصت القيادة دائماً على بثها في الشباب، كانت بالنسبة لهم طاقة فعل، فضلا عن الدفع بهم إلى المشاركة في تحمل مسؤولياتهم الوطنية والمشاركة في مسيرة البناء متسلحين بالعلم وأدوات العصر، هي الهدف الذي سعت إليه دائما من خلال إطلاق التخصصات التي تلبي احتياجات العصر.

كما أن هذه الرؤية تأسست على أهمية العمل في إطار فريق، باعتبار أن فريق العمل يمثل من خلال أعضائه طريقة تفكير شريحة واسعة يصعب على الفرد الإلمام بكافة جوانبها، ففرق العمل هي بيئة للإبداع لأنها تشكل مزيجاً من الآراء المختلفة ووجهات النظر المتباينة، التي تتجاذب مع بعضها لتنتج في الأخير رؤى إبداعية تفوق قدرات الفرد المنفرد، وآية ذلك ما أكد عليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حين قال إن صناعة فريق عمل قوي وناجح أكثر ما يفتخر به أي قائد.

كما أن هناك الآلاف من فرق العمل الناجحة والمتفانية التي تعمل في الحكومات المحلية والحكومة الاتحادية هي السبب في نجاح الدولة، كما أن التفوق رحلة مستمرة ليست لها محطة نهائية، والعالم لا يمنح الفرص للآخرين، إنما الفرص تقتنص بقوة العزم وإرادة الفعل، وكما يقول الشاعر «وما نيل المطالب بالتمني * ولكن تؤخذ الدنيا غلابا»، كما أن التحديات لا تحول دون تحقيق الأهداف، لكنها التجارب التي تصقل معادن الرجال وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

كما أن هذه الرؤية حرصت على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، من خلال الانفتاح على العالم لانتقاء أنسب وأفضل الممارسات في شتى المجالات، مع الحفاظ على الثوابت الثقافية وتعزيز الهوية الوطنية والتأكيد على شخصيتها التي تميزها، وأهم ملامحها التمكين للغة العربية لتحتل المكانة اللائقة بها.

هذه الرؤية ترى أن الوطنية الحقة ليست شعارات ترفع أو كلمات تردد لا تبرح مكانها، بل هي طاقة عمل وإرادة لا تعرف التردد، وعزيمة لا تكل ولا تمل للوصول إلى الغايات التي من شأنها إسعاد الناس وتجويد حياتهم، وأن خدمة الأوطان ليست وظيفة لكنها حياة تمتد بامتداد صنائع الخير لكل فرد يعيش على هذه الأرض الطيبة، التي لم تضنّ يوما بثمارها على من وضع البذرة ورعاها، لذا كان الفخر بمن أسس والتقدير لمن حافظ وعمر.

كما أن هذه الرؤية، رغم أنها ذات صبغة وطنية خالصة، غير أنها سمت عن القطرية وفتحت الباب على مصراعيه للأشقاء والأصدقاء للتعاون والاستفادة منها، وليس أدل على ذلك من قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «كل الإنجازات التي تحققت في الإمارات إنجازات للعرب جميعا، وكل مشاريع دبي للعرب جميعا.

وسيتصدر هذا الاعتبار تفكيرنا في كل المشاريع التي سننفذها في المستقبل، وهذه كل تجاربنا وخبراتنا نضعها بين أيديهم يختارون منها ما يشاءون، وفوقها التزامنا الأخوي بتقديم كل العون الذي نستطيع تقديمه لمساعدتهم على تحقيقها».

وفي تقديري أنه من الفهم الملتبس أن يعتقد البعض أن هذه الرؤية تتعلق بشؤون السياسة ورجال الدولة وقيادة الشعوب فحسب، بل هي النبع الذي يجب أن يستلهمه كل صاحب مسؤولية ومن تناط به قيادة فريق عمل، والاستناد عليها باعتبارها محددات للإنجاز، ذلك أن التجربة التنموية لبلادنا والتي كشفت عن قوتها المؤشرات وبيوت الخبرة الدولية، في البدء كانت رؤية.

 

Email