معاناة خلف الأسوار

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمر الليلة تلو الأخرى والطفل ينتظر رجوع أمه؛ إما من حفل زفاف أحد الأقرباء أو تجمع مع الأصدقاء أو السفر للخارج، ليصبح سلوكاً متكرراً يشعر فيه الطفل بالوحشة، فلا يجد ما يسعف جروحه سوى البكاء الذي يغسل الألم ويخفف تلك الأوجاع النفسية.

سلوك قد يتكرر عند بعض الأسر، ولا أقصد التندّر قدر ما أود الإشارة إلى العواقب السلبية لنقص الاهتمام والحب على نفسية الطفل، الذي يتغذى منذ نعومة أظفاره في كل مرحلة عمرية على حب وحنان الأم، فلا يحتاج أن يبحث عنه خارج المنزل. فـ«سلوك الأبناء له جذور كامنة مستترة تدفعه وتوجهه نحو أغراضه»، والسلوك الظاهر من الأبناء هو مثل قمة جبل الجليد الضخم القابع في أعماق البحر، وهي رغبات الأبناء المُلِحة التي قد تُهمش أو لا تُؤخذ بعين الاعتبار من قِبل الأم.

وفي جو الحرمان يبدأ بعض العقليات الدخيلة باستغلال الأطفال والعيش بينهم لساعات طويلة، لتكلِّفهم الظروف دور الأم بالإنابة. نعم، هم الخدم الذين يحتلون بيوتنا ويشوهون عروبتنا وديننا وعاداتنا وتقاليدنا وهويتنا. تقوم الخادمة برعاية الأطفال لحظة خروج الأم إلى السوق.

فالأم "مضطرة" لأن لديها حفلة زفاف بعد أسبوع، أو تريد أن ترفه عن إحدى صديقاتها! ومن المضحك المبكي أن يرسل بعض الأمهات الخادمة إلى مجلس الأمهات، بسبب الضغوط غير المقنعة التي تمر بها. كيف نطمئن إلى صحة نفسية هذه الخادمة التي تعيش بين أبنائنا فنعطيها أدواراً لا تليق إلا بالأم؟

من المحزن أن ترى دموع بعض النساء اللاتي لم يتمكن من الإنجاب، تجلجل مع الآهات وتتصارع للخروج إلى العالم الفسيح لتريح الفؤاد المتعب، وحالات أخرى تزيد فيها معاناة النساء من الإجهاض، فلا ينجبن إلا بعد سنوات من الصبر والحرمان، بينما امرأة وهبها الله نعمة الأمومة ولكنها لم تقدرها حق قدرها! تسمع إحدى الأمهات ابنتها تردد للخادمة «أنا احبج وايد»، فيعتصر قلب الأم وتبدأ بمراجعة نفسها؛ ما الذي جعلني أعتمد على الخادمة بهذا القدر؟

يرجع سبب تعلق الأبناء بالخدم إلى الأمهات اللاتي تركن الحبل على الغارب، واعتمدن اعتماداً شبه كلي على الخادمات في تلبية الاحتياجات الأساسية لأبنائهن، وهن منشغلات بالخروج إلى السوق أو زيارة الأهل والأصدقاء. يبدأ الوالدان اكتشاف خطورة الموقف في وقت يتعذر معه تصحيح الخطأ في حق الأطفال الأبرياء، فلقد أصبحوا نسخة مكررة لسلوك الخدم.

ولكن المشكلة لا تكمن فقط في تعلق بعض الأطفال بالخادمات، بل في الإساءة الممارسة على الطفل داخل المنزل في حالة مخالفته لأوامر الخدم في غياب الأم، فتظهر لنا بين الفينة والأخرى حوادث اعتداءات الخدم على الأطفال. والحديث عن هذه القضايا لا ينتهي، فهو الموضوع القديم المتجدد دائماً. وبغض النظر عن الجرائم المباشرة التي ترتكبها هذه النفوس المريضة، هناك جرائم غير واضحة للعيان وتمارس بشكل خفي، حتى تظهر على الطفل يوماً على شكل سلوكيات غير سوية. من الملام الأول؟

الطرف الذي يتحمل النصيب الأكبر من اللوم هم الأهل الذين فتحوا الباب على مصراعيه أمام ثقتهم العمياء بالخدم، وتبقى الأم هي الأقرب دائماً، فالأمومة ليست مجرد علاقة ولادة فقط أو علاقة اهتمام وتربية، إنما هي علاقة مميزة وخاصة جداً تربط الطفل بوالدته.

نتناسى في خضم الانشغال اللامنتهي لأبعاد الصورة الكبيرة في الاهتمام بشؤون أطفالنا الصحية والاجتماعية والنفسية، والتي هي أحد المؤشرات التنموية الأساسية التي تعكس مدى رقي وتحضّر أي مجتمع، وفي الغالب نتذمر لضيق الوقت وسلوك الطفل السلبي، من غير أن ندرك أن تلفظه بكلمات غير سوية أو الصراخ وغيره، ما هي إلا رسالة موجهة للأم بعنوان «معاناة من خلف الأسوار». أبناؤنا فلذات أكبادنا ولآلئ عمرنا، وهم نعمة من نعم الله تعالى، ولا نبالغ إن قلنا إنهم أعظم هبة منحنا إياها.

 

Email