«رافي» في «سكي دبي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

«رافي» طفل في الرابعة عشرة من عمره تقريباً، أو هكذا يبدو من ملامح وجهه المائل إلى السمرة، المكتنز إلى حد ما.

يقف «رافي» داخل منطقة تبديل الملابس، قبل الدخول إلى «سكي دبي» في «مول الإمارات»، الذي يزدحم بالرواد عادة في هذا الوقت من العام، ويقف معه داخل المنطقة شاب نحيف البنية ذو لحية خفيفة، يكبر «رافي» بسنوات ربما تصل إلى الست، حاملاً له الملابس التي سيرتديها قبل أن يدخل المنطقة الثلجية شديدة البرودة، التي يتشوق الصغار والكبار لدخولها، هرباً من الحرارة التي يكتوون بلهيبها في الخارج.

ورغبة في ارتياد تجربة العيش في المنطقة القطبية المتجمدة، التي يتيحها لهم «سكي دبي» في هذه المنطقة شديدة الحرارة مرتفعة الرطوبة من العالم، خصوصاً أولئك الذين يفضلون قضاءالصيف هنا باختيارهم، أو يقضونه مجبرين لنقص إمكاناتهم المادية أو لظروف عملهم التي تحتم بقاءهم.

خلف الشريط الحاجز بين منطقة استلام الملابس الخاصة بدخول الصالة الثلجية التي لا يسمح بدخولها إلا لحاملي التذاكر فقط، ومنطقة بيع التذاكر، كان يقف والد رافي ووالدته، كما يبدو من نظراتهما وتصرفاتهما التي لا تخفى على الآباء والأمهات عادة، وكان يقف معهما ثلاثة رجال، يبدو من ملامحهم أيضاً أنهم من أقارب رافي، لشدة الشبه بينهم وبين والده ووالدته.

عدد الذين يرافقون رافي إذن ستة، واحد داخل منطقة استلام وتبديل الملابس، وخمسة خارج المنطقة، اثنتا عشرة عيناً كلها مركزة على رافي، ورافي يبتسم لكل العيون المركزة عليه. نسيت إخباركم أن هناك ستة هواتف متحركة، كاميراتها كلها مفتوحة، تصور رافي من الجهات الأربع، وتوثق ما يحدث لحظة بلحظة.

بدأ الشاب المرافق لرافي داخل منطقة تبديل الملابس، مساعدة رافي في ارتداء الملابس الواقية من البرودة، تحت إشراف وتوجيهات والدة رافي ووالده اللذين يقفان خلف الشريط الحاجز، وبدأت التعليمات تصدر من الأم تارة، ومن الأب تارة.

ومن حين إلى آخر كان أحد المرافقين الثلاثة يتدخل بتوجيه ملاحظة أو إسداء نصيحة، أو الابتسام وإبداء الرضى عند انتهاء مرحلة وبدء مرحلة. انتهى رافي من ارتداء الملابس الواقية من البرودة، وجلس على الأرض منتظرا مساعدة الشاب المرافق له في خلع حذائه وارتداء الحذاء الخاص بالمشي على الجليد.

بدا لي أن هذه المهمة أصعب من مهمة ارتداء الملابس، فقد استغرقت وقتاً أطول من الأولى، وكانت كاميرات الموبايلات الست تسجلها باعتبارها أكثر المراحل إثارة، فقد كان رافي يتقلب على الأرض خلالها، مطلقاً ضحكات تدل على الاستمتاع والمرح.

وما إن انتهى من ارتداء الحذاء حتى هب واقفاً على قدميه، ملوحاً بيديه للواقفين خارج منطقة التبديل، فقد حانت لحظة دخول الصالة الجليدية، وخوض تجربة معايشة العصر الجليدي الذي سمع مدرس العلوم في مدرسته يتحدث عنه، كما تحضره وهو على وشك الدخول صورة الباخرة «تايتانك» وهي تصطدم بجبل الجليد، في ذلك الفيلم الشهير الذي شاهده عدة مرات، وما زال لديه استعداد لمشاهدته.

ارتفعت خمس أيادٍ من خارج منطقة التبديل تلوح لرافي وتتمنى له أوقاتا طيبة، بينما امتدت يد سادسة داخل المنطقة تربت على كتفه مشجعة ومودعة، وقبل أن يعطي رافي مودعيه ظهره، استبقته أمه لحظة وأخذت توصيه بنفسه وتنصحه بالابتعاد عن التهور المعتاد لمن هم في مثل سنه، وتطلب منه عدم التردد في الخروج من الصالة الجليدية عند الإحساس بعدم قدرته على تحمل البرودة، والاعتذار لعدم تمكنها ووالده من مرافقته إلى الداخل بحكم سنهما الذي لا يحتمل مغامرة من هذا النوع.

هز رافي رأسه موافقا ًعلى كلام والدته، ثم استدار متجهاً إلى باب الصالة والعيون كلها تتبعه، وكاميرات الموبايلات تصوره، وقبل الدخول مباشرة حانت منه التفاتة إلى مودعيه، فرسم ابتسامة واسعة على وجهه، بينما كانت أمه تضم يديها وترفعهما عند مستوى جبهتها، وتتمتم بكلمات غير مسموعة، وإن كان واضحاً أنها أدعية من ذلك النوع الذي لا تكل الأمهات من ترديده عشرات المرات في اليوم والليلة، ولا يتوقفن عن تكراره حتى لو كبر الأبناء وتزوجوا، وأصبحوا آباء أو أمهات مثلهن.

كانت واقفة على مسافة قريبة من المشهد الذي حاولت أن أصفه لكم بدقة، أتابعه باهتمام بدأ بسيطاً، ثم تطور ليشغلني عما كان يدور في هذا المكان المزدحم بمختلف ألوان البشر القادمين من كل أنحاء الدنيا، في هذا البلد الذي يحتضن أكثر من مئتي جنسية، ينحدرون من عرقيات مختلفة، وبلدان بعضها قريب وبعضها بعيد، يتكلمون لغات بعضها حي وبعضها لا حياة فيه، ويدينون بديانات نعرف القليل منها ونجهل الكثير، وينتمون إلى ثقافات متنوعة يتوافق القليل منها مع ثقافتنا ويتقاطع الكثير منها معها.

وحدها المشاعر الإنسانية توحد بين كل هذه الجنسيات والألوان والعرقيات والديانات والثقافات، وعلى رأس هذه المشاعر حب الأبناء الذي كان يجمع من كان في صالة «سكي دبي» في تلك اللحظة التي جسدها «رافي» وعائلته في يوم من أيام صيف دبي، على أرض الإمارات التي غدت نموذجاً لتلاقح الحضارات والتوافق بين البشر، بعيداً عن الخلافات والمعارك والحروب التي تدور على الأرض، وتترك آثارها على كل مناحي الحياة فيها، لتشكل نقطة ضوء في هذا العالم الذي يبحث عن نقاط ضوء تبدد الظلمة التي تطبق على أنفاسه، وتهدد مستقبل أبنائه أمثال «رافي» ورفاقه، فكانت هذه اللقطة واحدة من تلك النقاط النادرة.

 

Email