إسرائيل والناجون من الهولوكوست

ت + ت - الحجم الطبيعي

وسط التضحيات الهائلة لأهل غزة، كان هناك دعم من طرف مهم. فقد نشر ثلاثمئة وستون يهودياً ممن نجوا من الهولوكست، أي المحرقة النازية، وأبناؤهم، رسالة مفتوحة في نيويورك تايمز، يدينون فيها بقوة «المذبحة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة»، كما أدانوا «الاحتلال والاستعمار المستمر لأرض فلسطين التاريخية».

وكان من الواضح أن أولئك الناجين من الهولوكست، المناهضين للصهيونية، قد استفزهم الإعلان الذي نشره إيلي ويزل، قبل بيانهم بوقت بأيام في صحيفة نيويورك تايمز نفسها، وقام فيه باختزال ما يحدث في غزة في اتهام حماس بأنها تتخذ من الأطفال «دروعاً بشرية»، ودعوته لأوباما وزعماء العالم بإدانة حماس «لأنها تستخدم الأطفال كدروع بشرية»، وزعم أن الحرب تدور بين «أولئك الذين يحتفون بالحياة وأولئك الذين يمجدون الموت».

وإيلى ويزل هو أحد الناجين من المحرقة هو الآخر، وهو ورومانى الأصل وحائز على جائزة نوبل. وهو صهيونى كان نتنياهو قد طلب منه هذا العام أن يترشح لمنصب رئيس إسرائيل، ولكنه رفض حسب روايته. وإعلان ويزل الأخير في نيويورك تايمز على صفحة كاملة، ليس هو الأول من نوعه، فهو كثيراً ما يفعل ذلك.

وكان قد نشر منذ فترة إعلاناً مدفوع الأجر يدين إيران بإيعاز من إسرائيل، وفي عام 2010 نشر إعلاناً مدفوع الأجر انتقد فيه أوباما لصالح نتنياهو، وقال فيه إن القدس «فوق السياسة»، ووصفها بأنها وردت في الكتاب المقدس أكثر من ستمئة مرة «بينما لم تذكر في القرآن على الإطلاق».

ثم زعم زورا أن المسيحيين واليهود والمسلمين «بإمكانهم أن يبنوا بيوتاً في القدس»، وأن حرية العبادة للجميع لم تكن أبداً مضمونة في المدينة المقدسة إلا بعد أن صارت لإسرائيل السيادة عليها.

وكان ذلك الإعلان شديد الجدلية، لكن الحقيقة أن أكاذيب ومغالطات ويزل وقتها لم يتصد لها سوى الإسرائيليين أنفسهم، فكون القدس محتلة يجعلها بالضرورة خاضعة للسياسة. أما أكذوبة بناء أبناء الأديان الثلاثة لبيوت في القدس بمنتهى الحرية، فقد وصف الإسرائيلي يوسي ساريد المدينة بأنها تتعرض «للتطهير والتهويد، بمساعدة يهود أميركيين أغنياء».

ومن هنا، انتقد بيان الناجون من الهولوكوست الذي صدر مؤخراً، إيلي ويزل شخصياً، قائلين«نحن نشعر بالغضب والخزي إزاء استغلال إيلي ويزل لتاريخنا على هذه الصفحات (صفحات نيويورك تايمز)، لتبرير ما لا يمكن تبريره: جهود إسرائيل الحثيثة لتدمير غزة وقتل ما يزيد عن 2000 فلسطيني، بما في ذلك مئات الأطفال».

ولعل أهم ما جاء في البيان هو أنه قام بإيجاد أوجه التشابه بين ما جرى لليهود في الهولوكوست، وما يجري للفلسطينيين تحت الاحتلال.

وأهمية ذلك أن أي حديث عن أوجه الشبه تلك، أمر ترفضه إسرائيل وأنصارها بالمطلق، وتتهم من يخوض فيه بالعداء للسامية، وهي تسعى لوضع الهولوكوست في مكانة وحدها لا ترقى لها أية معاناة إنسانية أخرى.

فها هم الناجون من الهولوكست بأنفسهم يعقدون المقارنة، ويوجدون أوجه الشبه بين معاناتهم ومعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.

فبعد أن أدان البيان الولايات المتحدة لأنها «تقدم التمويل» الذي تتمكن من خلاله إسرائيل أن تشن هجماتها على غزة، ثم أدان أيضاً «الدول الغربية» عموماً لأنها عبر قدراتها الدبلوماسية استطاعت أن تحمي إسرائيل من الإدانة الدولية، قال البيان بوضوح «فالإبادة الجماعية تبدأ بالصمت العالمي».

ولم تكن تلك هي الإشارة الوحيدة إلى وجه الشبه بين معاناة الناجين من محرقة النازي وبين معاناة الفلسطينيين، إذ أكد أصحاب البيان أنهم «منزعجون من نزع الإنسانية، العنصري المتطرف، الذي يحدث للفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي والذي وصل لحالة الحمى». ثم يضيفون أنهم حين يقولون «لن يتكرر أبداً بعد اليوم»، «فنحن نقصد أبداً بعد اليوم لكل البشر» (أي ليس لليهود وحدهم).

غير أن الأهم من هذا كله، هو ردود الأفعال داخل المجتمع الإسرائيلي على ذلك البيان. فالهولوكوست التي هي الجريمة الكبرى التي ارتكبت في حق يهود العالم، لم يسلم الناجون منها من تطرف المجتمع الإسرائيلي.

فقد عرضت الصحفية آمي كوفمان بعضاً من التعليقات التي حفلت بها مواقع التواصل الاجتماعي، بمجرد نشر ذلك البيان. و

هي تعليقات انطوت على عنف لفظي مذهل، ورغبة في قتل أولئك الناجين من الهولوكوست، لا تقل عن الرغبة في قتل الفلسطينيين! فقد قال أحدهم عن الناجين من الهولوكست الذين أدانوا «مذبحة الفلسطينيين»، إن «مثل هؤلاء مدعوون للعودة لأوشفيتز»، أحد معسكرات النازي التي قتل فيها اليهود، بينما قال آخر «هؤلاء يساريون خونة، لذلك لا يعيشون هنا في إسرائيل».

وعلق ثالث بغضب «من العار أن هتلر لم يقتلهم»، بينما قال رابع «هؤلاء لا بد أن يقتلوا»، فعاجله خامس قائلًا «إن الذين يفكرون هكذا من الناجين لا بد أن يموتوا .. هؤلاء مطلوبون في غرف الغاز».

وهناك مئات التعليقات التي لا تتسع المساحة لها، لكن من الناحية العلمية لا يمكن القول إن مواقع التواصل الاجتماعي تمثل عينة تمثل مجتمعاً ما بشكل حقيقي، غير أن استطلاعات الرأي العام لا تقدم لنا صورة تبعد كثيراً عن الواقع.

فوفق تلك الاستطلاعات التي هي أكثر دقة بكثير من الناحية العلمية، فإن المجتمع الإسرائيلي صار أكثر تطرفاً بكثير عن ذي قبل. فهل يا ترى تهزه كلمات الناجين من الهولوكوست، أم سيكون رد فعله عموماً مثل رد فعل أولئك الذين على مواقع التواصل الاجتماعي؟

 

Email