الدراما التاريخية والبحث عن السراب

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاش المشاهد خلال الفترة الماضية شبه مهرجان سنوي للدراما العربية، يشمر فيه صناع الدراما عن سواعدهم، ويقدح المؤلفون زناد أفكارهم ويذهبون بخيالهم ما اتسع لهم الخيال، ليخرجوا علينا ببضاعة فكرية نتفق أو نختلف حولها، إلا أنها في الأخير تحتاج إلى وقفات للتأمل والتقييم، لنتحسس موضع أقدامنا ونحدد الخطوة المقبلة.

خاصة وأن تاريخ الدراما العربية، كما أن التراث الدرامي العربي إن صح التعبير، من الثراء للحد الواجب فيه أن تتخطى الدراما العربية حدودها الجغرافية التقليدية، وتفتح لنفسها أسواقاً في مختلف بلدان العالم، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

والحق أنني لا أدعي أني تابعت كل الأعمال الدرامية التي عرضت خلال الأسابيع القليلة الماضية - وهو فوق طاقة الفرد على المتابعة - إلا أنني لم أكن بعيداً عنها، كما أن الإعلام الجديد جعل من السهولة بمكان متابعة الأعمال التي لم تتسنّ متابعتها حين عرضها تلفزيونياً، وخاصة تلك التي صاحبتها ضجة دعائية قبل عرضها، ولم تخل منها أثناء وبعد العرض.

الشاهد أنني بكل هذا الحماس والزخم المصاحب له، حرصت على مشاهدة بعض المسلسلات ذات الطابع التاريخي خلال فترة الإجازة، إلا أنه ترافق مع عرض كل حلقة ضعف في همتي للمتابعة، وكنت كالظمآن الذي كلما شعر باقتراب الوصول إلى الماء لتدب في جسده الحياة، إذا به يجده سرابا.

وقد انتابني شعور بأن الدراما العربية في جوانب كبيرة منها، والتاريخية على وجه الخصوص، تأثرت بشكل أو بآخر بالدراما التركية، وخاصة في مجال الصورة، مع فقر شديد في المضمون والاقتراب من قلب التاريخ النابض بالأحداث التي تنتظر من يميط عنها اللثام، وفضل صناع الأعمال الدرامية الابتعاد عنها والسباحة في المناطق الآمنة.

حين تتصدر بداية كل عمل "إنها أحداث درامية من خيال المؤلف"، كنوع من إبراء الذمة والبعد عن ملاحقة تصحيحية، لما ينطوي عليه المسلسل من مغالطات تاريخية أو لضعف في البحث والتدقيق والغوص في أعماق التاريخ.

ولا شك أن ذلك يقودنا إلى قضية من الأهمية بمكان بدأت تطل برأسها، وهي هل التناول الدرامي للأحداث التاريخية يخول صناعها أن يقدموا أو يؤخروا؟ أو يحق فيها الاعتماد على بعض الأحداث الموثقة تاريخياً، ثم يذهب بها كاتب النص بعيداً ليضيف من عنده ما يناقض ما هو ثابت تاريخياً.

ويحتج عند النقد بأنها ليست دراما توثيقية؟ وهل من الجائز لكاتب النص أن يذهب بخياله إلى آفاق لا حدود لها حين يتعامل مع أحداث التاريخ، بحجة المعالجة أو التناول الدرامي بالمنطق نفسه الذي يتعامل به مع الدراما الاجتماعية؟ أم أن هذا نوع من الخلط الذي يضر بالعمل الفني وبحقائق التاريخ؟ وما هي الحدود التي يجب أن يتوقف عندها، والضوابط التي يجب أن يلتزم بها صناع الدراما التاريخية؟

في تقديري أنه لا بد أن تكون هنالك ضوابط محددة حين يتم تقديم الأحداث التاريخية، من حيث الالتزام بالحقائق، وأن تخضع النصوص التاريخية لمراجعة من أصحاب الاختصاص، كما يتم التعامل مع نصوص الأعمال الدرامية التي تتناول الجوانب الدينية لضمان دقتها، ولا ينبغي عرضها إلا بعد توافر الحد المقبول من الحقائق التاريخية المتفق على صحتها، حتى وإن تصدرت الحلقات عبارة إن "أحداث المسلسل من خيال المؤلف".

لأن إثبات الحقيقة التاريخية لا يتعارض أو يعيق إبداع المؤلف ولا يحد من خياله، كما أن تكييف الأعمال التاريخية لتتماشى مع متطلبات العمل الدرامي يشوه التاريخ، كما يضر بمصداقية العمل الدرامي في وقت معاً.

وخاصة إذا علمنا أن المشاهد لن يستطيع في كل حالة التمييز بين ما تفتق عنه خيال المؤلف وما هو من حقائق التاريخ، فضلاً عن أن خصوصية الأعمال التاريخية تأتي من كونها في أحيان كثيرة، نافذة يطل منها المشاهدون على أحداث لم يطلعوا عليها عبر وسائل أخرى.

حيث تعطيها الصورة والحوار وحركة الكاميرا طابعاً لا تكتمل متعته إلا بالالتزام بحقائق التاريخ، ويأتي دور خيال الكاتب في تشريح الحالة النفسية المصاحبة لحدث من الأحداث الثابتة تاريخياً، والملابسات التي صاحبت حالة معينة إن لم يسعفنا التوثيق التاريخي بها هنا، شريطة أن يكون ما أضافه مقنعاً ومنسجماً مع الأحداث.

المسألة الأخرى التي يجب الانتباه لها، أن الدراما الخليجية ما زالت بعيدة عن حجم الإنجاز الذي تم في هذه المنطقة من العالم، ولم تستطع أن تلاحق التطور الحاصل، كما أنها ما زالت تحجل في دائرة مغلقة وموضوعات محددة.

رغم أن ما حدث في منطقة الخليج من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وما تحقق من إنجاز، وما سطره المؤسسون ومن حمل الراية من بعدهم، كفيل بإنتاج العديد من الأعمال الدرامية التي ستكون المرجع للجيل الحالي ومن سيأتي بعده، ليقرأ عبر الكلمة والصورة سيرة وطن ومسيرة شعب.

فضلاً عن أن تاريخ منطقة الخليج سيمد صناع الدراما بمعين لا ينضب من مادة كفيلة بوضع الدراما الخليجية في مقدمة الدراما العربية، بما يتوافر لها من دعم مادي وتقني كبير.

وآية ذلك أن الدراما السورية لم يسطع نجمها ولم تنافس غيرها من الدراما إلا عبر الدراما التاريخية، وسيكون التاريخ هو البوابة التي تعبر بها الدراما الخليجية حدودها الإقليمية والعربية، لتعرّف الشعوب العربية والعالم بأن الخليج ليس نفطاً فقط، لكنه كان وما زال وسيظل حضارة وثقافة وفكراً وإرادة فعل وطاقة استطاعت أن تنير هذا الجزء من العالم.

ليس بقوة المال فحسب، وإنما برؤية وتخطيط صاحبهما عمل لا يتوقف، كما أن سِير القادة التي خلدتها مآثرهم ومحبة شعوبهم، لم تزل بعيدة عن التناول الدرامي، وهو أمر يستحق التوقف عنده طويلاً، لأن الدراما هي كتاب التاريخ المرئي.

 إنني أدعو صناع الدراما الخليجية، لأن نرى العام المقبل تاريخ الخليج وقادته يقدم لأبنائنا في نسخته الدرامية، حتى لا نظل ضيوفاً على أشكال درامية نبحث فيها عن السراب.

 

Email