العصبيات المتفجرة وآفاقها المستقبلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن الطائفية مجرد ظاهرة سياسية تبلورت في إطار مشروع إمبريالي غربي لتفكيك السلطنة العثمانية من الداخل بل رافقت التبدلات والثورات الصناعية والعلمية، والاحتكارات الاقتصادية، والكارتلات المالية في عصر العولمة، ثم تحولت في ظروف دولية ملائمة من ظاهرة اجتماعية تهتم بطقوس العبادات والشعائر الدينية في إطار نظام الملل العثماني، إلى عصبات دينية ذات أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية منذ القرن التاسع عشر.

واستفادت منها الدول الاستعمارية الأوروبية في تأجيج الصراع على السلطة تحت يافطة التحرر من السيطرة العثمانية الطويلة، وبناء نظم الحداثة والمعاصرة التي تأثرت بالثورات الصناعية والعلمية في أوروبا.

بعض الباحثين في المسألة الطائفية في العهد العثماني، بالغوا في التركيز على أثر العوامل الخارجية في تحويل الظاهرة الطائفية المستقرة إلى طائفية متفجرة، لكن قلة متنورة منهم ركزت على العوامل الداخلية التي أدت إلى بروز تحولات مهمة في مختلف ولايات السلطنة العثمانية بعد احتكاك شعوبها بمقولات الثورات التحررية في أوروبا، مما دفع بعض السلاطين العثمانيين إلى القيام بإصلاحات متنوعة في مركز السلطنة وولاياتها، عرفت بالتنظيمات وما رافقها من خطوط همايونية وتوجه إصلاحي على النمط الأوروبي. ولعبت التبدلات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية دوراً بارزاً في عملية التحديث وما أعقبها من حركات إصلاحية طالت غالبية المجتمعات العربية.

وكانت حركات الاحتجاج ترتدي وجهاً تصادمياً بسبب كثافة التدخلات الدولية من جهة، ومحاولة السلطنة قمع وإرهاب القوى الداخلية المنتفضة من جهة أخرى. وانتعشت حركات التمرد والعصيان في إطار مخططات دولية تهدف إلى تفكيك السلطنة، مما ساهم في ظهور طبقة جديدة من التجار والصناعيين الجدد، وخاصة بورجوازية الحرير المناهضة لكبار الملاك في بلاد الشام.

وزاد في حدة الأزمات الداخلية أن الشرائح الاجتماعية الجديدة تبلورت لدى الطوائف المسيحية قبل سواها من الطوائف. ونشطت المقاومة الشعبية في جبل لبنان ومناطق أخرى من بلاد الشام، ضد الرسوم الجمركية التي فرضتها السلطنة آنذاك تحت ضغط الدول الأوروبية.

وبعد أن عممت تلك الرسوم على المدن الساحلية منذ أواسط القرن التاسع عشر، تعززت مكانة بيروت الاقتصادية بالتعاون الوثيق مع برجوازية الحرير الناشطة في جبل لبنان، وارتبط بعض زعماء الطوائف بعلاقات اقتصادية متينة مع تجار بيروت، ومنهم من لعب دور الوسيط التجاري بين جبل لبنان وأغنياء الداخل السوري من جهة، ومراكز الرساميل الأوروبية من جهة أخرى.

على جانب آخر، تأثرت نخب الطوائف في بلاد الشام كثيراً بالثقافة الغربية، من خلال المدارس المحلية والإرساليات الأجنبية التي كانت تدرس العلوم العصرية واللغات الأوروبية. واحتدم الصراع على السلطة والنفوذ داخل الطوائف المحلية، وتحددت معها طبيعة النظام السياسي الطائفي في جبل لبنان، ولاحقاً في دول المشرق العربي بأكملها. ومع تفجر النزاعات السياسية بين زعماء الطوائف تحول الصراع الطائفي إلى صراع مذهبي داخلي، بدعم خارجي مباشر لترسيخ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، والعمل المستمر للسيطرة على المنطقة الممتدة بين الفرات والنيل.

وبعد تفجر الانتفاضات الشعبية العربية عام 2011، باتت العلاقة بين زعماء الطوائف في العالم العربي شديدة التقلب، وتركت آثارها الواضحة في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة، مما أدى إلى تحول قوى أساسية في المعارضة داخل الدول المنتفضة، إلى قوى مذهبية تستخدم أساليب دموية غير مألوفة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر. وباتت تهدد أيضاً مصالح الدول الكبرى في هذه المنطقة، بعد أن ضربت ركائز الدولة العصرية في دول عربية باتت عرضة للانهيار، على غرار ما يجري في ليبيا واليمن والعراق وسوريا.

وبرز خلل حاد داخل الطوائف المحلية وفيما بينها، على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما ساعد على إضعاف النظام السياسي القائم وتراجع دور النخب السياسية العصرية لصالح بورجوازية ريعية متفلتة من جميع الضوابط. وتشهد المنطقة العربية تبدلات داخلية بالغة الخطورة رافقت بروز حركة تكفيرية تعادي جميع الأديان، كجماعة داعش وحلفائها.

وقد استخدمت القتل على الهوية المذهبية والعرقية لتهجير طوائف أو جماعات بأكملها من مناطق تواجدها، حيث كانت تقيم منذ قرون عدة في ظل أنظمة إسلامية كانت تحترم التنوع والتعددية في داخلها.

وبرزت فئات اجتماعية جديدة تستخدم التهجير والقتل والإرهاب والتنكيل بالجماعات السكانية الأخرى، لبسط سيطرتها على مناطق واسعة من بلاد العرب والتحكم في سكانها ومواردها الطبيعية. دلالة ذلك أن الطائفية المتفجرة التي ارتبطت بمشروع استعماري أوروبي للسيطرة على السلطنة واقتسام ولاياتها، تحولت إلى عصبيات مدمرة تهدد قيم الدين الإسلامي.

Email