حرب غزة والدروس المستفادة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الثامن من يوليو 2014 بدأت إسرائيل حرب إبادة جماعية بصورة منهجية على غزة لتدمير مساكنها، ومؤسساتها، وأماكن العبادة فيها، ورياض الأطفال، وجميع مراكز الإنتاج، فأدت إلى استشهاد ألفي فلسطيني، بينهم أكثر من أربعمئة طفل بحسب تقارير منظمة اليونيسيف، وتجاوز عدد الجرحى تسعة آلاف معظمهم من المدنيين، وأكثر من مليون مشرد. ورغم هول المأساة، وتفجر التظاهرات الشعبية في كثير من دول العالم، فإن مواقف الأنظمة وجامعة الدول العربية لم ترق إلى مستوى المسؤولية التاريخية، تجاه شعب عربي محاصر ويتعرض لإبادة يومية تصل إلى عشرات القتلى ومئات الجرحى.

سجل العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، موقفاً متميزاً في الأول من أغسطس، دان فيه جرائم إسرائيل في غزة، ووصفها بجرائم حرب ضد الإنسانية وسط صمت مطبق للمجتمع الدولي. وقال إن »دماء الفلسطينيين تسفك في مجازر جماعية، وترتكب في غزة جرائم حرب موصوفة ضد الإنسانية، دون وازع إنساني أو أخلاقي«، مضيفاً أنه »باتت للإرهاب أشكال مختلفة، منها إرهاب الجماعات أو المنظمات، لكن الأخطر هو إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل نظراً لإمكاناتها الهائلة وأهدافها المعلنة«.

وحذرت منظمات دولية كثيرة تعنى بحقوق الإنسان، من أن صمت المجتمع الدولي بكامل مؤسساته، تجاه ما يحدث في غزة بأكملها، أمر يثير الريبة وسيؤدي إلى خروج جيل بكامله لا يؤمن بغير العنف، فيرفض السلام ويتبنى مقولة صراع الحضارات، وليس الحوار بينها. وهذا التوصيف الدقيق للصمت المريب ينطبق على الدول الحليفة لإسرائيل. وفي المقابل، لا بد من التنويه بالمواقف الرائعة لعدد كبير من دول أميركا اللاتينية، التي دانت بشدة الهجوم العسكري الهمجي الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة.

وتجرأ بعضهم على وصف إسرائيل بالدولة الإرهابية، وهناك دول استدعت سفراءها من إسرائيل احتجاجاً، وقامت بتعبئة شعبية وصلت إلى شبه إجماع غير مسبوق تأييداً لحقوق الفلسطينيين، واتخذ بعض قادتها مواقف عملية بإدانة أعمال إسرائيل العدوانية.

بعبارة موجزة، لم يسبق لدول أميركا اللاتينية أن اتخذت مواقف موحدة وبصورة شبه جماعية، كما توحدت في إدانة الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، وهي تندرج ضمن ثلاثة محاور تنبع من مناهج فكرية واضحة: الأول: موقف رئيس بوليفيا الذي عبر عن فكر اليسار الراديكالي في أميركا اللاتينية، فدعا إلى إدراج إسرائيل على قائمة الدول الإرهابية.

الثاني: موقف رئيس فنزويلا ونواب في الحزب الاشتراكي الحاكم، الذين وصفوا العدوان بحرب الإبادة المبرمجة التي تشنها العسكرتاريا الإسرائيلية منذ نحو قرن على الشعب الفلسطيني. ووصفت رئيسة البرازيل الهجوم الإسرائيلي بالمجزرة، وقررت استدعاء سفيرها من تل أبيب للتشاور، ما أدى إلى توتر العلاقات بين الجانبين، وخاصة بعد أن وصف المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية رئيسة البرازيل بـ»القزم الدبلوماسي«.

ثالثا: أجمعت دول أميركا اللاتينية على التنديد بعنف العمليات الإسرائيلية، والمطالبة بوقف لإطلاق النار واستئناف المفاوضات بين طرفي النزاع. وحذت البيرو والإكوادور وتشيلي والسلفادور حذو البرازيل، واستدعت ممثليها من اسرائيل للتشاور. أما كوستاريكا، والأرجنتين التي تضم أكبر مجموعة يهودية في أميركا اللاتينية، فاكتفت كل منهما باستدعاء سفير إسرائيل إلى وزارة الخارجية.

وطالب رئيس أوروغواي بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من غزة، وأعلن أنه يدرس استدعاء ممثله من تل أبيب. تلك المواقف الرائعة لبعض دول أميركا اللاتينية، ليست جديدة من حيث دعمها للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فقد قطعت كوبا علاقتها مع إسرائيل منذ حرب أكتوبر 1973، وسبق للرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز أن طرد السفير الإسرائيلي، بعد العدوان على غزة عام 2009، ثم حذت حذوه بوليفيا في العام نفسه، وقطعت نيكاراغوا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل عام 2010، بيد أن الجديد هو هذا الإجماع الدبلوماسي شبه الكامل، وهو يتطلب بحثاً علمياً لمعرفة الأسباب العميقة التي أفضت إلى هذا الموقف من إسرائيل، فهذه الدول تحكمها تيارات سياسية يسارية، تركز على البعد الإنساني في العلاقات الدولية، وعلى التضامن الأممي بين الشعوب، وإدانة السياسة الإمبريالية بأشكالها القديمة والمتجددة في عصر العولمة الهمجية، التي تقودها الولايات المتحدة منفردة منذ نهاية الحرب الباردة.

ونظراً للعداء المعلن الذي تبديه دول أميركا اللاتينية المناهضة لسياسية الولايات المتحدة على المستوى الكوني، ارتفع حجم التعبئة الشعبية في دولها ضد حرب إسرائيل على غزة، وأعلنت تأييدها للحقوق المشروعة للفلسطينيين، بصورة تفوق بما لا يقاس حجم التعبئة في الدول العربية. وهذا الموقف يتضمن شعوراً معادياً للولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية نفسها، انعكس بصورة جلية في حالة العداء لإسرائيل بصفتها دولة ملحقة بالولايات المتحدة.

وعبرت تظاهرات التأييد للفلسطينيين في عواصم أميركا اللاتينية، عن أن معاناة شعوبها من السياسة الأميركية تتماثل مع معاناة الفلسطينيين من سياسة إسرائيل الإجرامية والمدعومة من أميركا.

قدمت دول أميركا اللاتينية دروساً غنية ومستفادة للعرب، وشكلت مواقف قادتها الجريئة صفعة قوية للدول العربية وجامعتها المشلولة بالنزاعات البينية، لكن الصمود البطولي لأهل غزة أظهر إسرائيل على حقيقتها دولة إرهابية، تتنكر لجميع المبادئ الإنسانية، فغالبية القتلى هم من الأطفال والمدنيين، فمتى يرتقي العرب، قادة وشعوباً، إلى مصاف دول أميركا اللاتينية التي أكدت أن طريق التحرر الحقيقي يتطلب فك الارتباط التبعي بالولايات المتحدة أولاً، وأن إسرائيل هي إحدى أدواتها الأكثر إجراماً في الشرق الأوسط؟

Email