عن صورة إسرائيل اليوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا نعرف متى سينفد صبر المجتمع الدولي، أو لنقل ميوعته، إزاء العربدة الاسرائيلية، لكن المؤكد راهنا هو أن العدوان الأخير على غزة قد ساهم في خفض مكانة اسرائيل لدى الرأي العام العالمي، وأقعدها في أقرب موضع مما ندعوه »نقطة الحضيض الحدية«.. تلك التي لا يسع صناع القرار الدولي والحكومات المسؤولة عندها، تجاهل السلوك الإجرامي لهذه الدولة المارقة، بحيث يتحتم إخضاعها لمواقف عقابية صارمة.

في غمرة هذا العدوان، ثبت يقينا أن تصنيف اسرائيل منذ أعوام كثالث أكثر دول العالم خطرا على السلم والأمن العالمي، لم يكن تقديرا عشوائيا. على سبيل المثال، كان يوم التاسع من أغسطس الجاري مشهودا وفارقا، لجهة الافصاح عن سخط الخلق وغضبهم أجمعين تقريبا، على هذه الدولة. تمثل جديد هذه الغضبة العالمية الشعبية، في شموليتها وفي انضواء قطاعات وأطياف اجتماعية وسياسية ظلت طويلا محسوبة إما على موقف الانحياز التلقائي الى جانب اسرائيل، وإما على الصمت واللامبالاة تجاه جرائمها متعددة الأنماط.

ففي الرحاب الأوروبية، ظهر أن الدعاية الصهيونية الجبارة وما ارتبط بها من أساليب التسميم السياسي واستقطاب التأييد الأعمى لإسرائيل، قد شحبت وذهب ريحها الى حد بعيد، اذ لم يكتف عشرات ألوف المتظاهرين الأوروبيين، بالتنديد بالعدوان الإسرائيلي وادانته بأقوى العبارات ورفض التبريرات التي سيقت بين يديه، وإنما ذهب هؤلاء أيضا الى حث المسؤولين، على الصعيدين القومي والاتحادي، على الالتزام بخطوات عقابية محددة ضد اسرائيل.. ومنهم من رفع شعارا بالغ الايحاء تاريخيا، هو »ليست هذه اسرائيل التي أردناها«، منادين بمقاطعتها اقتصاديا وطرد سفرائها ومحاصرة سفاراتها، الى حين فك حصار غزة ومنحها الحق في ممر مائي.

وقد لفت بعض المشاركين الى اجراءات بعينها تستطيع الدبلوماسية الفلسطينية والعربية استلهامها، كضرورة تجريم المواطنين الأوروبيين وغيرهم من مزدوجي الجنسية المنضمين الى الجيش الإسرائيلي، وملاحقة ضباط الاحتلال وجنوده قانونيا، فضلا عن السعي الجاد لتطوير الاسناد الإغاثي عالميا للشعب الفلسطيني.

مثل هذه التفصيلات تستحضر الأجواء التي سادت، أوروبيا ودوليا، ضد نظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا، وكان لها القول الفصل في استئصاله قبل عشرين عاما. وعلى ذكر هذه الأجواء والنموذج الإفريقي، يلاحظ تزامن الغضبة الشعبية الأوروبية، مع تظاهرة مماثلة غطت شوارع كيب تاون، وكانت الأكبر منذ انهيار النظام العنصري هناك، وشاركت فيها أسرة الرمز العالمي الراحل نيلسون مانديلا.. وفيها علا النداء قويا بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة والاستقلال، وبضرورة محاسبة اسرائيل على جرائمها أمام القضاء الدولي، وتفعيل مقاطعتها عالميا على كافة المستويات.

على ضفة العالم الأميركي اللاتيني، كانت الحقائق العدوانية ومسمياتها وتجلياتها أكثر وضوحا.. حتى إن معظم الشعوب والحكومات تلاقت وتوافقت، دون تخطيط مسبق، على تسفيه اسرائيل ورميها بما تستحقه من توصيفات قميئة.

فقيل هناك بأنها دولة ارهابية خارجة عن السويتين القانونية والأخلاقية، وفي عواصم لاتينية بعينها تم استدعاء السفراء الاسرائيليين وإسماعهم ما يكرهون. ولم تكن مواقف الآسيويين أقل حدة في تقريع اسرائيل واعلان الانتصار للحقوق الفلسطينية، قياسا بما بلغته غضبة اللاتينيين.

وفي روسيا، التزمت صحيفة برافدا عين العقل، عندما سخرت من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وحكمت عليه بقصر النظر وعدم الصلاحية القيادية من الأصل. هذا غيض من فيض مؤشرات السقوط العمودي لصورة اسرائيل الدولة والحكم والسياسة، لدى شعوب كثيرة في جهات الدنيا الأربع.

وهو ما تحقق جراء النضال الفلسطيني المديد عامة، والصلابة الاسطورية في مقاومة حملة الشواء القذرة التي شنتها الآلة العسكرية الباغية ضد قطاع غزة. والمطلوب الآن، فلسطينيا وعربيا، هو استثمار الصورة المنحطة لإسرائيل، التي تكونت ملامحها وانطبعت في الذاكرة العالمية.

وهذا نوع من الجهاد الأكبر.. فمن المعلوم أن للرأي العام ذاكرة ضعيفة وقابلة للزوال والتصحر، وربما كانت عرضة للتحول بفعل توالي المستجدات وعوامل التعرية والتغيير، التي تضطلع بها الآلات الدعائية وأدوات التأثير الجهنمية.. ونحن نعرف أن الصهيونية، الحركة والدولة، تملك منها الكثير.

Email