تداعي النظام الإقليمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأتي العمليات العسكرية الهمجية التي تنفذها إسرائيل في غزة في ظروف تمر فيها منطقة الشرق الأوسط بأسوأ أوضاعها مما سمح لها بالتغول في حربها والقيام بعمليات عبرت فيها عن مدى بعدها عن أية رغبة للوصول إلى حلول مرضية في القضية الفلسطينية رغم الكثير من التنازلات التي قدمها الجانب العربي ورغم الإرادة الدولية. فهي تعربد وتوغل بشكل غير مسبوق في سفك دماء الفلسطينيين وتدمير مدنهم متجاهلة ومحتقرة جميع من في المنطقة وخارجها وضاربة بالرأي العام العالمي عرض الحائط مصممة على المضي قدما لتحقيق أهدافها في فرض نظامها الإقليمي الخاص في المنطقة لأنها على ثقة تامة بأن هذا النوع من الصراع الذي تخوضه مع الفلسطينيين وبشكل خاص مع حماس في غزة غير قابل للتوسع والانتشار. منطقة الشرق الأوسط تشهد صراعات ملتهبة لم يألفها الجيل الحالي ولا الجيل الذي سبقه من شعوبها، صراعات داخلية تركت الملايين من أبناءها عرضة لأشد أنواع الترويع في بلدانهم أو مشردين داخلها أو مهاجرين ومهجرين خارجها. فهناك عدد من الدول العربية تمر منذ عدة سنوات بظروف استثنائية للغاية، ظروف لا تتعلق بخلافات خطيرة مع من يجاورها أو حوادث محدودة التأثير والضرر تقع في بعض مدنها بل هي ظروف تتعلق بما هو أخطر من ذلك لأنها تختص بمصير هذه الدول وبمستقبل شعوبها وترتبط في الإطار الأوسع بمجمل النظام الإقليمي في المنطقة.

ما يجري في منطقة الشرق الأوسط ليس أحداثا وقضايا منفصلة عن بعضها فهناك مشتركات لا يمكن أن تكون عفوية، حيث فشلت أكثر من دولة من دولها في إيجاد صيغة لاحتواء ما يطرح فيها من أجندات ومواقف. فقد أخفق السوريون في تسوية خلافاتهم بعد فشل جنيف 1 ثم جنيف 2 ولم يعد هناك ضرورة للذهاب إلى جنيف 3 فساحة المعركة أشد إغراء وأكثر قربا. وها نحن نشهد كيف دخلت الصراعات في العراق طورا جديدا بعد أن فقدت الحكومة سيطرتها على مناطق واسعة من البلد. وغرقت ليبيا في حالة فوضى من العنف المدمر لا يبدو الخروج منه سهلا ولا قريبا. أما في اليمن فقد بات الصراع المسلح ظاهرة مزمنة وأصبح البلد ساحة صراعات أكثر من طرف يلعب فيها ويدفعها نحو المزيد من التفكك المجتمعي والمناطقي. ويعيش لبنان رغم الشد الدائم في العلاقات بين من يمسكون بخيوط اللعبة السياسية فيه حالة فراغ رئاسي لعدم قدرته على انتخاب رئيس جديد وسط انقسام مجتمعي شديد في الموقف مما يجري في سوريا. من جانب آخر تمكنت مصر من لملمة نفسها بصعوبات بالغة ولا أحد يستطيع التنبؤ بمدى قدرتها على استرجاع نفسها كدولة رائدة في المنطقة.

ولا يخفى على الراصد بأن هذه الصراعات تشهد تراجعا في الهوية الوطنية الجامعة، هوية الانتماء للأرض والعيش المشترك، ليتاح المجال لبروز وطغيان دور هويات أخرى تنتمي إلى ما ورثه الإنسان من الماضي البعيد وليس إلى ما اختاره بوعيه وإرادته، وتتنوع بين هويات عرقية أو دينية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية.

السمات المميزة لجميع هذه الصراعات هو العنف الشديد والاتجاه نحو توسيع حجم الفرقة ورفع سقوف الاستقطابات وإزالة نقاط اللقاء وتقليص فرص الحوار، هادئا أو ساخنا، ومن هذا المنظور فهي ليست صراعات سياسية تتقبل التسويات على طاولات المساومات والترضيات كما هو معروف.

من جانب آخر وبعد سقوط الكثير من الضحايا وبعد الخراب الكبير الذي زرعته هذه الصراعات تتضخ سمة أخرى لها وهي أن أيا من أطرافها غير قادر على الحسم بقدراته الذاتية كما أن حساسية الوضع الدولي والعودة الفعلية للحرب الباردة تقف إلى حد كبير عائقا أمام تدخل دولة أخرى وهو مما يطيل المشهد ودمويته.

لا شك أن الخيار البديل لهذه الصراعات هو الحوار للخروج بحل يرسي العلاقات على أسس جديدة سواء الاستمرار في العيش المشترك في بلد واحد أو البحث عن شكل من أشكال الانفصال إلا أن فرص تحقيق ذلك تبدو شبه معدومة كما أسلفنا دون وجود طرف ثالث قوي وقادر على أن يكون لاعبا في الصراع نفسه وقادرا على التأثير على مساراته باستخدام القوة إن لزم الأمر. المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة أثبتت عجزها عن ذلك لأن الدول العظمى صاحبة القرار في مجلس الأمن الدولي تجد في هذه الصراعات أدوات للمناورة والابتزاز لتنفيذ بعض سياساتها وتصبح بذلك أدوات شلل للمنظمة الدولية.

لا شك أن هذه الصراعات لم تنبثق عن فراغ ولم تتراكم أسبابها بين ليلة وضحاها ولم تنضج بهذا الشكل لتصبح أداة مدمرة فجأة بل كانت هناك فسحة زمنية طويلة سمحت لأخطاء الحكومات وتسلط الحكام الطغاة أن تؤتي أكلها لتصبح أدواة تدمير وخراب للروابط المجتمعية في مرحلة انبثاق قوى إقليمية جديدة وتغير في معادلات التوازنات على المستوى العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة لتوصل النظام الإقليمي إلى حافة الانهيار كما نشهد الآن.

هناك نظام إقليمي جديد في طور التشكيل في منطقة الشرق الأوسط لا يستبعد فيه أن يعاد رسم الحدود الجغرافية للدول وفق أسس جديدة تقررها الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية ويتحكم في تشكيله طبيعة التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة والحضور القوي لثلاث دول هي تركيا وإيران وإسرائيل من جهة أخرى.

 

Email