فلسطين.. شعب لا ينكسر

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أقل من سنتين على العدوان الإسرائيلي الذي حمل اسم »عمود السحاب« نهاية 2012، يعود قطاع غزة ليكون هدفاً لعدوان آخر باسم »الجرف الصلب«. لم يكن سكان القطاع الذين ناهز عددهم المليون وثمانمائة ألف نسمة، قد رمموا جراحهم وبيوتهم التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية، ولا تمكن الأطفال الرضع من أن يعرفوا أن لهم آباء كانوا قبل ولادتهم ينتظرون أن يسمعوا كلمة بابا.

كان عدوان »الرصاص المصبوب« الذي شنته إسرائيل على القطاع نهاية 2008، قد خلف أكثر من ألف وخمسمائة شهيد، وأكثر من خمسة آلاف جريح، فضلاً عن تدمير أحياء بكاملها على طول الحدود الشمالية والشرقية للقطاع.

الدمار الشامل استهدف حينها البيوت السكنية والمساجد والمصانع والورش والمؤسسات الاجتماعية، وكان الهدف توسيع المنطقة الأمنية المحاذية للحدود. وفي هذه المرة اكتشفت إسرائيل أن ما فعلته خلال عدواني 2008 و2012، لم يكن كافياً لمنع المقاومة من أن تذهب إلى حيث يرابط الجنود الإسرائيليون، عبر شبكات طويلة وضخمة من الأنفاق.

ولذلك استغلت إسرائيل ذريعة اكتشافها بعض الأنفاق، لكي توسع للمرة الثانية الشريط الحدودي والمنطقة الأمنية، من خلال تدمير حزام آخر من المباني السكنية، شمل كل المناطق في شمال وشرق القطاع.

الإسرائيليون الذين يختارون أسماء حملاتهم العدوانية استناداً إلى خلفيات توراتية، لا يحسنون قراءة تداعيات الخلفية الدينية للحركات الفلسطينية، التي تختار هي الأخرى عناوين لمقاومتها من القرآن الكريم أو من التراث الإسلامي.

ففي عام 2008 اختاروا اسم »حرب الفرقان«، وفي عام 2012 »حجارة السجيل«، وفي 2014 اختاروا »العصف المأكول«. الاستناد إلى الموروث الديني، يوفر للمقاتلين الفلسطينيين دوافع إضافية، تحفزهم أكثر على القتال بشجاعة منقطعة النظير، فالمقاتل إما شهيد تنتظره كل مميزات الشهادة، وإما بطل قومي.

ورغم أن هذا الدافع كان موجوداً كل الوقت، وقد عرفت إسرائيل آثار ذلك، من خلال ما يعرف بالعمليات الاستشهادية، إلا أن هذه الجولة من التصدي للعدوان توفرت لها عوامل قوة جديدة. فالمقاتل الفلسطيني تحصن في الأنفاق، وخرج من بين صفوف قوات العدو ومن خلفها، وأيضاً من خلف الحدود، مما جعل بعض الضباط الإسرائيليين يشتكون من أنهم يقاتلون أشباحاً.

الجندي الإسرائيلي المتحصن في دباباته أو آليته، لا يرى مقاتلاً فلسطينياً، ولذلك فإنه لا يفعل سوى أن يطلق النار عشوائياً في كل اتجاه، فهو لا يرى المقاتل الفلسطيني إلا مرة واحدة، حين يفاجئه وقد صوب سلاحه إلى حيث يتحصن الجنود، الذين يحالف الحظ من يصاب بينهم ويتم نقله للعلاج في المستشفيات.

ولأن المقاومة قدمت في هذه الجولة ما فاجأت به الصديق والشقيق قبل العدو، فقد لوحظ صمود الناس والتفافهم حولها، رغم الدماء النازفة بكثافة، لكنهم يأملون أن يتوقف شلال الدم، وأن تؤدي نتائج هذه المواجهة التي حظيت بدعم كبير وتعاطف من قبل الشعب الفلسطيني، إلى أن يتغير الحال، إذ من غير الممكن أن يظل سكان القطاع يعيشون في ظروف تعود إلى القرون الوسطى.

صمود المقاومة والموقف الفلسطيني حول المطالب العادلة والمنطقية، ورفض التهدئة المجانية أو التهدئة مقابل التهدئة، يغذي الناس ببعض التفاؤل بأن القادم سيكون أفضل، بما يعوضهم عن خسارة الابن أو الأب أو الأم، أو الجار والقريب، أو المأوى. إن سألت مواطناً في غزة عن أحواله، سيقول لك الحمد لله على السلامة، وأن سلامة الأبدان أهم من سلامة البيت الذي يمكن أن يعيد بناءه أو ترميمه.

وبعيداً عما تنقله وسائل الإعلام من مشاهد تدمي القلوب، فقد قضى أهل غزة شهر رمضان الكريم وهم في أسوأ حال، كذلك يستقبلون عيد الفطر المبارك، الذي ستختلف طقوسه هذه المرة، حيث تهيمن على المشهد الاجتماعي العام بيوت العزاء وعيادة الجرحى، ومواساة العائلات التي فقدت أبناءها وبيوتها وممتلكاتها. ويلفت النظر، مدى عمق التكافل الاجتماعي بين الناس الذين يحتضنون المهجرين من بيوتهم، حتى لو أنهم لا يمتلكون ما يساعدهم على ذلك.

مئات العائلات تستضيف مئات العائلات، وبكل رحابة صدر، ويتقاسمون معهم لقمة العيش. هذا هو وضع سكان قطاع غزة، الذين لم يستسلموا لجيش نابليون، ولم يسلموا للطغاة الصهاينة، وظلوا يحملون المشروع الوطني الفلسطيني، يسقونه بالدماء كلما ضعف شعاعه. وفي هذه المواجهة الصعبة، يستعيد أهل غزة بالدم صياغة الكرامة والهوية الفلسطينية، ويعيدون للقضية وهجها وألقها ومكانتها المركزية، رغم الاضطراب العربي التاريخي الكبير، الذي يضعف الأمة ويشتت قواها وشملها.

Email