محمود درويش.. الشاعر والإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في صباح اليوم الذي كتبت خلاله هذه السطور، وبينما كنت أتابع بعض الأخبار الأدبية على الإنترنت، أدهشني أن أجد خبراً عن كتاب جديد صدر لتوه باللغة الإنجليزية، عن حياة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وعالمه. وعنوان الكتاب »فن الشاعر وأمته«، وهو من تأليف الشاعر والأستاذ الجامعي الليبي خالد مطواه. ويشعر المرء بأن هذا الكتاب قد أطل في المرحلة الأكثر أهمية من تاريخ فلسطين، على نحو ما تقدمه الأخبار الفظيعة التي بثت خلال الأيام القليلة الماضية.

لقد نلت شرف وسعادة لقاء محمود درويش مرات عدة في بيروت، ومرة أخيرة خلال معرض الكتاب، الذي أقيم منذ سنوات عدة في أبوظبي، قبيل رحيل الشاعر عن عالمنا مباشرة. أسعدني أيضاً أن أعثر في عدد عام 1989 من مجلة »آزور« الأدبية، على أنني كنت قد كتبت صورة إبداعية لمحمود درويش، بعد أن أصر صديق فلسطيني على أن أقوم بمهمة ترجمة بعض المختارات من شعر درويش. وقمت بنشر تلك المختارات تحت عنوان »موسيقى اللحم البشري«، وهي عبارة مستمدة من إحدى القصائد التي قمت بترجمتها.

كانت تلك مغامرتي الأولى والوحيدة، التي انطلقت خلالها إلى عالم ترجمة الشعر، وقد ساورني الشعور بأن ترجمة الشعر تتطلب شاعراً للقيام بها، وأسعدني في وقت لاحق أن العديد من ترجماتي كانت ولا تزال مدرجة في مجموعة أميركية تدعى »كتاب فينتيج للشعر العامي المعاصر«.

وفي ما يلي ما كتبته في الصورة الإبداعية التي ألفتها عن درويش، وأنا أدرجها هنا لاعتزازي الشديد بها بعد كل هذه السنوات، ولحرصي على تقديمها للقارئ العربي.»كان محمود درويش واحداً من الفلسطينيين الذين حلقوا إلى ذروة الشهرة في العالم العربي، باعتباره من شعراء المقاومة أو شعراء الأرض المحتلة، وقد تبنت الصحافة العربية قضية هؤلاء الشعراء بمزيد من الحماسة، حيث رأت فيهم ذراعاً للنضال ضد الصهيونية.

والحقيقة أن هؤلاء الشعراء قد برزوا في إطار التقليد الرئيس للشاعر العربي، الذي يضرب جذوره في عهود ما قبل الإسلام. وبينما حقق محمود درويش نجاحاً وشعبية في مرحلة مبكرة من مسيرته شاعراً، فإن الصورة التي أبدعها في أذهان معظم الناس هي الصورة الإبداعية لقضية بلاده، حيث وظف الشعر كسلاح. وبالنسبة لغير القارئين باللغة العربية، فإن قصائد درويش ربما تطرح صعوبات معينة، مستمدة في الأغلب من المضمون، وليس من الأساليب الشعرية التي تعد أقرب إلى أساليب الشعر الحديث في الغرب منها إلى الشعر العربي التقليدي. فالموضوع الوحيد لشعر درويش هو فقدان الوطن الفلسطيني على يد الصهاينة، وبتواطؤ من الاستعمار البريطاني، وهي خسارة تجسدت في فقده لوطنه.

بالنسبة لمحمود درويش، فإن فلسطين هي الحبيبة المفقودة، وهذا يطرح صراحة في »يوميات جرح فلسطيني«، حيث يقال لنا بوضوح، إن الشاعر هو العاشق وإن الأرض هي المعشوق. ويشدد محمود درويش في العديد من قصائده على الحقيقة القائلة بأن فلسطين هي في المقام الأول بلد فلاحين. ومحمود درويش الذي يعد قبل كل شيء شاعراً أساسياً، لا يمكن فهمه على الوجه الصحيح إلا ببعض الإلمام بالقضية الفلسطينية، والخلفية السياسية في العالم العربي عموما.

فالإسرائيليون يواصلون محاولة سرقة العربي داخل إسرائيل، وسلبه شخصيته العربية، وهذه الشخصية تكمن قبل كل شيء في اللغة العربية، لغة القرآن والتراث الثقافي العربي.

وأهمية مجموعة الشعراء التي ينتمي إليها محمود درويش، تلخص في كلمات الناقد إلياس خوري: »الشعر تأكيد للهوية العربية وسط عالم من المستوطنين الصهاينة«، ودعنا نقتطف هذه المقولة من قصيدة مبكرة بعنوان التحدي، حيث يقول الشاعر »إن الشعر دم القلب، وملح الخبز وماء العين«. والشعر باعتباره هكذا، يعد أكثر أهمية من أن يسمح له بأن يظل منفصلاً عن الحياة.

وشهرة درويش تكمن في أنه لوركا المقاومة الفلسطينية، وكما أصبحت قصائده أكثر اتساماً بالطابع الشخصي وبعداً عن المباشرة، فكذلك أصبح هو أكثر شاعرية. وفي بحثه الدؤوب عن حل لورطته الإنسانية الخاصة، ربما قام بتوسيع نطاق مادته إلى ما يتجاوز قضية مأساة فلسطين، التي ظل يكرس لها نفسه كلية تقريباً كونه شاعراً، وكونه إنساناً حتى النهاية«.

Email