أيام الطيبين

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أيام من حلول عيد الفطر المبارك، انتشرت مجموعة من الرسائل النصية، تُذكّر الجيل الجديد من الشباب بأصول المعايدة، وماذا يجب أن يقال عند التهنئة بالعيد، وعند الرد على التهنئة. وهي رسائل تمثل في جانبها الإيجابي عودةً إلى العادات والتقاليد، ورغبةً في المحافظة عليها، في مجتمع سريع النمو كثير التحول، لكنها تعكس على الجانب الآخر خطراً يتهدد هذه العادات والتقاليد، من ناحية اضمحلال هذه الثقافة المجتمعية لدى الجيل الجديد، وهي ثقافة مستمدة في غالبها من تعاليم الدين الحنيف والقيم التي شكّل من خلالها المجتمع هويته الخاصة.

عام 2010 أطلقت وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع مبادرة »السنع«، للتذكير بهذه العادات والتقاليد وتعليمها لجيل الناشئة والشباب. وقبل أيام تلقيت من الوزارة مجموعة من الكتب التي أصدرتها في إطار هذه المبادرة الجميلة، وقد استمتعت بقراءتها واستفدت منها، وطلبت من أبنائي قراءتها. لكن السؤال الذي ألح عليّ هو: ما الذي دعا الوزارة إلى أن تطلق هذه المبادرة؟ وإلى أي مدى نحن محتاجون إلى أن نستذكر هذه المبادئ ونعلمها لأبنائنا؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟

أسئلة تصب أجوبتها في خانة الحفاظ على التلاحم المجتمعي والهوية الوطنية، وهو الموضوع القديم الجديد الذي يجب أن يظل حاضراً في أذهاننا كلما أوغلنا في المستقبل، وتركنا الماضي خلفنا، لأن التحول من طبيعة المجتمعات التي تتطور بسرعة فائقة مثل مجتمعنا، وهذا التحول يحمل مخاطر عدة، أهمها ضعف التلاحم المجتمعي وضياع الهوية، وعندما يضعف التلاحم المجتمعي وتضيع الهوية، تصبح الأوطان هي الأخرى مهددة بالضعف والضياع.

لذلك فإن إطلاق مبادرات مثل هذه، دليل وعي لا تخلّف مثلما يعتقد البعض، فالتمسك بالقيم الفاضلة المتمثلة في العادات والتقاليد المتوارثة لا يتعارض مع الانطلاق نحو المستقبل، بل هو تحدٍّ يجب أن تخوضه المجتمعات كي تثبت قوتها ومقدرتها على الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

أواخر شهر يونيو من هذا العام، أطلقت مجموعة من أبناء وبنات الإمارات مبادرة وطنية سمّتها »إلى جاري«، تهدف لإحياء التواصل بين الجيران كواحدة من العادات الموروثة في مجتمع الإمارات، هذه العادات التي أوشكت على الاندثار بفعل تطور الحياة العصرية ووسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، وذلك عبر بطاقة مطبوعة تنقل باليد، وتحمل عبارات التهنئة، إلى جانب ما يتوفر من أطعمة منزلية أو هدايا رمزية. وتتضمن المبادرة بطاقات معايدة بشهر رمضان المبارك، وعيد الفطر الذي يعقب الشهر الكريم، تتم طباعتها وتوفيرها للجمهور مجاناً، لتناقلها بين السكان باليد، بغية حثهم على التواصل المباشر في مختلف المناسبات، الوطنية منها والدينية والإنسانية، سعياً إلى إشاعة هذا النمط التقليدي من التواصل، ومحاولة إحياء العادات الأصيلة.

الجميل في هذه المبادرة أن من أطلقها ليسوا الكبار الذين يحنون إلى الزمن الجميل كما يُعتقَد، وإنما مجموعة من شباب وشابات الجيل الجديد، جيل الآي باد كما يسميهم البعض، لكنها مجموعة مختلفة، تقول واحدة من المشاركين فيها إن فكرة المبادرة نبعت من موروثنا المحلي الأصيل، وديننا الحنيف الذي أوصى بالجار خيراً، ونظراً لما أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي الحديث من تباعد »فيزيائي« بين الناس أفقدهم طابع الألفة، كما أفقد القاطنين في أحياء سكنية واحدة دفئها الذي كان سائداً قبل سنوات. وتشير مشاركة أخرى إلى الإيجابيات التي ينطوي عليها التطور التقني الحديث ووسائل الاتصال المختلفة، لكنها تقول إن ثمة أنماطاً أخرى من الاتصال الإنساني يجدر الحفاظ عليها بجانب الحديث، دون أن يتقدم نمط على حساب نمط آخر.

الحنين إلى الماضي الجميل إذن، لم يعد هاجس أولئك الذين عاشوا ذلك الماضي فقط، وإنما هو محل اهتمام جيل لم يعشه، لكنه سمع عنه وبدأ يشعر بأن ماضي أهله مهدد بالخطر. لهذا نظم مطلقو مبادرة »إلى جاري« جلسة تفاعلية للتعريف بمبادرتهم الأسبوع الماضي في ندوة الثقافة والعلوم في دبي، ضمت أجيالاً مختلفة، وكان الانسجام والتقارب فيها واضحاً بين هذه الأجيال، بحيث بدا وكأن انتقالاً من زمن إلى زمن لم يحدث، وأن وحدة فكرية تجمع بين من عاش الزمن الجميل وبين من لم يعشه، لكنه يحاول إعادته والمحافظة على عاداته وتقاليده، والدفء الذي كان سائداً فيه وبتنا نفتقده اليوم.

»أيام الطيبين« تعبير أخذ ينتشر هذه الأيام بين فئة الشباب على وجه الخصوص، كلما أرادوا الحديث عن الماضي الجميل، لا سيما في البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تعتمد مادتها على الموروث الشعبي، خاصة في برامج المسابقات. وهو تعبير يطرح سؤالاً عن ارتباط الطيبة بالماضي وتراجعها في زمننا هذا، لكنه مجرد سؤال افتراضي لا يعني بالضرورة أن هذا الجيل يفتقر إلى الطيبة التي كانت تتصف بها الأجيال السابقة التي عانت من شظف العيش، وواجهت صعوبات الحياة بصبر وجلد دون أن تفقد ترابطها، فحافظت على نسيجها الاجتماعي، وعبرت بالوطن حتى أصبح أهله أسعد شعوب الأرض، وحكومته أكثر الحكومات كفاءة، واقتصاده واحداً من أكثر الاقتصادات نمواً، وبنيته واحدة من أكثر البنى تطوراً وتقدماً.

لهذا فحين تطلق وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع مبادرة مثل مبادرة »السنع«، وحين تطلق مجموعة من شباب وشابات الوطن مبادرة مثل »إلى جاري«، وحين يتبادل الناس رسائل تذكّر بالعادات والتقاليد المتوارثة، فإن هذا لا يعني أن »أيام الطيبين« قد ذهبت إلى غير رجعة، وإنما يعني أن هذه الأيام مستمرة ومتواصلة، طالما كان هناك من يحن إليها ويتمسك بها.

Email