إخبار العُربان عن مناقب الألمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت قد دعوت زملائي إبّان فترة الدراسة على عشاء إماراتي بشقتي بسان دييغو، وكانت البداية بفنجان قهوة بالزعفران والهيل، ولاحظت تباين الآراء بين محب للطعم وممتعض منه إلا أن صديقاً ألمانياً قال لي: لا أستطيع القول إنه جيد أو سيء، لكنّه مختلف!

هم كذلك معاشر الألمان، دقيقون في كل شيء حتى في انتقاء كلماتهم وكأنّهم يرضعون الجودة مخلوطة ببودرة النيدو في صِغَرهم، وإذ تشير التنقيبات إلى أن أول استطيان مكتَشَف في ألمانيا يعود لما قبل 600.000 سنة فإنّ أكمل أسلحة صيد تم اكتشافها في العصور السحيقة كانت في منطقة شونينجن الألمانية «يعني لا تستغربون جودة صناعة البي أم دبليو والمرسيدس فالعرق دسّاس»

ألمانيا التي أبكت أكثر من 200 مليون برازيلي من مدينة بورتو أليغري جنوباً حتى ماناوس في الشمال الغربي في ليلةٍ ليلاء قبل أسبوعين بكأس العالم عندما سحقت البرازيل بسبعة أهداف في مباراة ستبقى وصمة عار للبرازيليين حتى قيام الساعة، كانت تُقدِّم من جديد درساً في التخطيط والصبر على المخرجات وليس محاولات القفز على المراحل ..

كما يفعل بعض المتهورين، فمنذ خروجها المذل من بطولة (يورو 2000) لم تُهدِر لحظة في البكاء أو محاولات بعض الفاشلين من البحث عن أي شماعة لتبرير الإخفاق، فقامت بتخصيص مليار يورو لتطوير المدربين ومدربي المراحل السنية والمرافق الرياضية والأبحاث وأساليب رعاية الموهوبين وكان الهدف ببساطة: الفوز بكأس العالم عام 2014 وهذا ما تم وبفريق كل عناصره من مخرجات تلك الخطة ما عدا المهاجم الاحتياطي كلوزه!

ألمانيا قدّمت درساً آخر في تفوّق العمل الجماعي على الإبهار الفردي، إذ أن قائمة أفضل عشرة لاعبين في العالم خلت من أي نجمٍ منها، لكنها قدّمت فريقاً ألغى كل العنتريات الفردية وانتظار البطل المنقذ ليمارس ألعاب الحواة، فلا صوت يعلو لديها على صوت التكامل والتعاون، وهو أمر يُلاحظ في نطاقات عدة على المشهد الألماني..

فالجمهورية التي تمثِّل رابع أكبر اقتصاد عالمي وفقاً للناتج المحلي الإجمالي والبالغ 3.8 تريليونات دولار وخامس أكبر قوة شرائية في العالم وثالث أكبر مصدر وأكبر مستورد عالمياً وصاحبة أقدم نظام رعاية صحية في العالم وأكثرها كفاءة ما فتئت من تعزيز العمل الجماعي، فمؤسسة «هيلمهولتز لمراكز البحث الألماني» الرائدة والتي أُنشئت تحت هدف محدد:

«حل التحديات العظيمة في العلوم والصناعة والمجتمع» وبميزانية سنوية تبلغ 3.4 مليارات يورو، تم تأسيسها من تكامل ومشاركة 18 مركز بحث علمي متخصص مستقل. أمّا مؤسسة ألكسندر فان هامبولد المدعومة من الحكومة فتقوم فلسفتها على خلق تعاون وتكامل بين نخبة العلماء والنوابغ من الطلاب في التخصصات العلمية من كل أنحاء العالم لتعزيز الأراضي الألمانية كبؤرة للنتاج العلمي العالمي..

وتعطي سنوياً 700 منحة دراسية إلى ألمانيا لتطوير أبحاث علمية متفردة يقوم باختيارها الباحثون لا المؤسسة لضمان التنوّع وتجدّد الأفكار وطرق الطرح، لذ ليس غريباً أن يصل منتسبو المؤسسة إلى 26.000 عالم وباحث من أكثر من 130 دولة وأن تحصل على خمسين جائزة نوبل!

التخطيط المسبق وتنوّع الطرح ورسم السيناريوهات والعمل بروح الفريق هي ما ميّز الألمان طيلة تاريخهم، فلم يكن حينئذ بغريب أن يخرج لنا النوابغ منهم في كل المجالات، فالبيئة الحاضنة للإبداع لا بد أن تخرج أجيالاً متلاحقة من المبدعين «طبعاً تُخرجهم لواجهة التألق وليس إلى خارج أسوار المؤسسة»، لذا رأينا ألمانيا تُقدِّم في الفلسفة ايمانويل كانت وفريدريك هيجل وكارل ماركس وفريدريك نيتشه، وفي الفن:

باخ وبيتهوفن وتشوبان وموتزارت، وفي الفيزياء: ألبيرت آينشتاين وماكس بلانك وغابرييل فاهرنهايت، وأول فائز بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1901 كونراد رونتغن مكتشف الأشعة السينية X-Ray، أما أوتو هان فكان عراب كيمياء النشاط الإشعاعي وهو مكتشف الانشطار النووي والذي قاد اكتشافه وبحثه لاحقاً لتصنيع القنبلة النووية. تتعدد الأسماء اللامعة في جبين الحضارة الإنسانية من العلماء الألمان فيوهان غوتنبرغ هو مخترع الآلة الطابعة..

وكونراد زوس هو صانع أول كمبيوتر في العالم، ولو سردنا فلن نتوقف لدولة تعتبر المركز الرئيسي لأهم الأبحاث العلمية في العالم والتي تمثّل الدولة الأكثر فوزاً بجائزة نوبل في مجالات الفيزياء والكيمياء والأدوية والفلسفة وتنفق فيها إحدى مؤسسات دعم الأبحاث الأكاديمية (DAAD) ما يقارب نصف مليار يورو سنوياً لرعاية 50.000 طالب ألماني موهوب كل عام، وقامت لتكملة منظومة الاهتمام بتخصصات الشباب الأخرى بتأسيس نظام لتأهيل رجال الأعمال المبتدئين واختبارهم Germany's Apprenticeship System والذي قامت الصين بمحاكاته أخيراً لتعزيز قدرات اقتصادها الذي بدأ نموّه في التباطؤ.

إنّ ألمانيا ملحمة نجاح وتفوّق لا تجارى ولا بد أن تعطى حقها من الدراسة والاستفادة منها، فبعد أن كانت في حقبة العصور المظلمة مسرحاً للحروب والاغتيالات والتسلّط الكنسي أتاها القرن العشرين بحربين عالميتين خرجت منهما مهزومة مطحونة القوى، لكنها عادت سريعاً كما يعود طائر الفينيق في الأساطير، عادت ليس بالعنتريات ولكن بالتخطيط السليم ومعرفة مواطن الخلل وبناء منظومة علمية متكاملة قادرة على إعادتها للواجهة من الباب الواسع، والأهم في ذلك التأني وعدم حرق المراحل، فهزيمة البرازيل بسبعة أهداف في عقر دارها استغرق أربعة عشر عاماً!

 

Email