كراهية الجيران والأقربين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يخفف من خسارة البرازيل لكأس العالم الأخيرة سوى هزيمة الأرجنتين، وخروجها خالية الوفاض. واللافت للنظر ذلك التشجيع البرازيلي الحار لألمانيا ضد الأرجنتين، فلم يتحمل البرازيليون خروج كأس العالم من أراضيهم إلى الأرجنتين التي تنتمي إلى القارة اللاتينية، والتي تتشابه معهم في الإرث الثقافي والحضاري مفضلين عليها ألمانيا بنت القارة الأوروبية المختلفة عنهم تماماً في الثقافة والعادات والتقاليد.

والبرازيل ليست عجباً في سلوكها، فهذا السلوك يحدث في كافة بقاع الأرض على مستوى كرة القدم، فالجماهير تشجع بلادا بعيدة عنها وتختلف عنها ثقافيا وحضاريا متمنية لها الفوز، تفضيلاً لها عن جيرانها الأقربين. ويحدث هذا السلوك الكروي داخل البلد الواحد، خصوصا في تلك البلدان التي يحتكر كرة القدم فيها فريقان متميزان، حيث نجد جماهير كل فريق تفضل هزيمة الفريق الآخر، وبشكل خاص في المباريات الدولية التي يعتبر كل فريق فيها سفيراً للدولة وعنواناً لها.

وإذا تجاوزنا كرة القدم سوف نجد السلوك نفسه يحدث بين الجيران في الحي الواحد، وزملاء العمل، بل ويمتد إلى الأقارب والعائلات والإخوة، إلى الحد الذي يصيغ فيه الضمير الشعبي صياغة بالغة الدلالة هذه العلاقات والسلوكيات عندما يقرر أن »الأقارب عقارب«.

قد تبدو هذه العلاقات غريبة الشأن ومدعاة للاندهاش. فقد كان من المفروض أن يشجع البرازيليون فريق الأرجنتين، وكان من المفروض أن تتلاشى الانتماءات المحلية في المباريات الدولية لصالح المشاعر القومية العامة والمشتركة.

كما أنه كان من المفروض أن نسعد بزميل عمل لنا نال جائزة ما، وأن نفرح بأبناء جيراننا حينما يتفوقون في دراستهم، بغض النظر عن خيبة أبنائنا وترديهم التعليمي، كما أنه كان من المفروض أن يسعد أبناء العائلة الواحدة لبعضهم البعض إذا ما تحقق شيء مفرح لهم، كأن تسعد الأخت بزواج أختها، ويسعد الأخ بنجاح أخيه... وهكذا. لكن الملاحظ هو العكس في معظم الأحيان وليس كلها بالطبع، وإلا قلنا على الدنيا السلام!!

الواقع أن هذا السلوك والتبعات المرتبطة به ينبع من معرفتنا الشديدة بالآخرين؛ فنحن نعرف عن الدول المجاورة لنا أكثر مما نعرف عن الدول البعيدة عنا، كما نعرف عن فرق بلداننا أكثر مما نعرف عن الخصوم في البلدان الأخرى، كما نحفظ عن ظهر قلب خصائص وسمات وأخلاق زملاء العمل، وأخيراً فنحن أدرى الناس بجيراننا وأقاربنا وأفراد أسرتنا. وبالمقابل هم يعرفون عنا كل صغيرة وكبيرة، يعرفون هفواتنا وعيوبنا، ويحفظون تاريخنا عن ظهر قلب، بل يعلمون فضائحنا المختلفة التي قد يتندرون بها علينا في الكثير من المناسبات.

والبشر بشكل عام لا يحبون الآخرين الذين يعرفون عنهم كل شيء، لذلك فنحن نندهش جداً من حجم علاقات الكراهية التي تصيب بعض الأسر، وخصوصا بين الزوجين، وننسى أنهما يعرفان بعضهما البعض بشكل كبير، تعرف الزوجة عيوب زوجها التي ربما لا يفطن لها أي شخص آخر بخلافها، ويعرف الرجل عيوب زوجته الجاثمة على أنفاسه في الوقت التي يظن الآخرون من حولهما أنها ملاك طيب وديع.

والواقع أننا في عالمنا العربي غالبا ما نقترب من بعضنا البعض بشكل كبير وهائل، لا تدع الدول لبعضها البعض قدراً ما من الخصوصية محاولة التدخل في كافة شؤونها، كما أننا مكشوفون بشكل كبير في علاقات العمل والجيرة وغيرها من أنماط العلاقات الأخرى أمام الآخرين. وهذا الانكشاف يجعلنا نخاف من بعضنا البعض، ناهيك عن هذا الكم الهائل من العُقد الشخصية، والاضطرابات الاجتماعية، وعدم التحقق الذاتي.

كلها عوامل تصب في النهاية في خلق شخصيات متوترة، سواء على المستوى القومي أو على مستوى علاقات الحياة اليومية في العمل والجيرة والأسرة ذاتها.

وعلى الرغم من أنه من المفروض أن معرفتنا واسعة النطاق بالآخرين المحيط بنا تساعدنا على التواصل السلس فيما بيننا، إذا بها تمثل أداة نحو الكراهية والفضح والمشاعر الدفينة القائمة على تمني الشرور للآخرين. من أسف، أن العلاقات بين الدول العربية تساعد على تأجيج هذه المستويات المتصاعدة من الكراهية فيما بينها، كما أن تصاعد وتيرة التقسيمات العرقية والطائفية والمذهبية والدينية تساعد على تأجيج المزيد من الكراهية، وأخيراً فإن كل ذلك يصب في مجريات حياتنا اليومية بين الأفراد وعبر الوحدات الاجتماعية صغيرة الحجم.

يحتاج المواطن العربي المعاصر إلى الاستفادة من معرفته بالآخرين المحيطين به، وتوجيهها وجهة صحيحة نحو تعميق العلاقات البينية بديلاً عن حمى الكراهية المتصاعدة، وهو أمر لن يتم إلا بمناهج تربوية راقية، وأطر سياسية واعدة!

Email