حرب إسرائيل المفتوحة على غزة

ت + ت - الحجم الطبيعي

انطلاقاً من القاعدة الذهبية في قراءة حركة التاريخ بعيون الحاضر الذي يفسر الماضي، يمكن تصنيف حرب إسرائيل المفتوحة على غزة بأنها جزء من مخطط قديم أعدته إسرائيل لينفذ في هذه الظروف المأساوية لتفكك العرب. فالعدوان الإسرائيلي مستمر على غزة منذ الثامن من يوليو 2014، وسط صمت عربي مريب، وبدعم من حلفاء إسرائيل الذين تبنوا أهداف العدوان، ثم وافقوا على التهدئة لوقف العنف بعد أن تأكدوا من صمود غزة وشعبها. واكتفت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بالدعوة إلى ضبط النفس، والإعراب عن القلق والأسف لمقتل مدنيين من الجانبين.

لم يكن توقيت العدوان مفاجئاً، لأن العرب تائهون في حروبهم الطائفية والعبثية التي تهدد بزوال أكثر من دولة عربية عن الخارطة السياسية.

وكان من المتوقع أن تستفيد إسرائيل من هذه الفوضى غير الخلاقة، لتشن هجوماً واسع النطاق يطال جميع القوى المعادية لها، وبخاصة العسكرية منها في غزة ولبنان. وخلال الأسبوع الأول من حربها على غزة، مارست كل أشكال الضغط على الشعب الفلسطيني لتهجيره من قطاع غزة، مستخدمة كل أدوات الدمار العسكري براً وبحراً وجواً.

وخلال الأسبوع الأول، سقط أكثر من مائتي شهيد و1500 جريح، نسبة كبيرة منهم من الأطفال والنساء والمسنين. ولاحظت تقارير مؤسسات طبية وإنسانية عالمية، وجود دلائل دامغة تؤكد استخدام إسرائيل للقنابل الفوسفورية الحارقة في عدوانها على غزة.

ورغم الحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل ضد شعب غزة المحاصر، استمرت صواريخ المقاومة تنطلق بكثافة من غزة، وباتت غالبية أراضي إسرائيل من الشمال إلى الجنوب تحت مرمى هذه الصواريخ التي كشف مهندسوها عن تصنيع طائرات من دون طيار حملت اسم »أبابيل-1«، ونفذت طلعات بمهام سرية محددة فوق وزارة الحرب الإسرائيلية، إلى أن كشفت المقاومة خبر إسقاط إسرائيل لطائرة منها قبالة مدينة أسدود بصواريخ »باتريوت« الأميركية المتطورة.

لقد نجحت المقاومة الفلسطينية في شل الحركة داخل إسرائيل، بعد أن طالت صواريخها تل أبيب وعسقلان وأسدود وحيفا، ومراكز إسرائيل النووية، واستهدفت الموانئ البحرية ومطار اللد، وأوقفت حركة الطيران لبعض الوقت في مطار تل أبيب، وحذرت شركات الطيران الدولية من الهبوط في المطارات الإسرائيلية. وشهد الاقتصاد الإسرائيلي حالة جمود بكلفة عالية، بسبب الشلل الذي أصاب العديد من قطاعات الزراعة والإنتاج الصناعي، فمعظم مدن ومستوطنات إسرائيل اليوم باتت ضمن مرمى صواريخ المقاومة بعيدة المدى. وأصيب قطاع السياحة بضربة أليمة هذا العام، وتعطلت أو ارتبكت برامج الرحلات الجوية بعد استهداف مطار بن غوريون الذي يشكل عصب حركة الطيران من وإلى إسرائيل.

وعلى الرغم من الجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل يومياً، امتنعت الولايات المتحدة عن انتقاد إسرائيل رغم ارتفاع عدد القتلى المدنيين في قطاع غزة المحاصر، وأبدت قلقاً خادعاً بشأن الضحايا المدنيين من الجانبين، وحاولت تحميل المسؤولية للجلاد والضحية بطريقة متساوية، دافع الرئيس أوباما عن جرائم إسرائيل أثناء حربها على غزة بقوله: »تلتزم أميركا بأمن إسرائيل لأنها أعظم وأقدم صديقة لها«. وأعقبه الرئيس الفرنسي هولاند بالقول: »لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها إذا هوجمت«، مطالباً بوقف فوري لإطلاق النار.

في هذا السياق ولدت المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، بعد أن فشلت إسرائيل في إسكات صواريخ المقاومة، وباتت تدرك جيداً أن الاجتياح البري الواسع لن يقود إلى حل عسكري، بل يهدد بفتح جبهات أخرى ضدها. فقد توحدت جميع فصائل المقاومة، وهي تنسق في ما بينها لمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها على غرار ما حصل خلال غزوها للبنان في يوليو 2006.

ولم تعد القوات العسكرية الإسرائيلية تشعر بالأمان في مناطق وجودها أو التي تحتلها، وهناك تخوف دولي من توسيع المواجهة في غزة لتصبح حرباً مفتوحة تهدد بقاء إسرائيل بقدر ما تهدد بقاء الدول المجاورة لها.

فلدى المقاومة في غزة ولبنان صواريخ نوعية كثيرة العدد، وهي قادرة على استهداف العمق الإسرائيلي ما بين ديمونة وتل أبيب ومطار بن غوريون، إضافة إلى تنفيذ عمليات كوماندوس برية وبحرية ضد إسرائيل، بهدف كسر حاجز الخوف من جيشها والخروج من عقدة الهزيمة المسبقة التي تعيشها الجيوش النظامية العربية.

مازال صمود غزة يشكل البوصلة الدقيقة لتحديد مسار الموقف الفلسطيني بشكل خاص والموقف العربي بشكل عام، من الصراع العربي الإسرائيلي، ولا حل لهذا الصراع في المدى المنظور بسبب الخلل الفادح في ميزان القوى العسكري. فقطاع غزة محاصر بمخطط إسرائيلي يرمي إلى حشر الفلسطينيين في أضيق نطاق جغرافي، تمهيداً لتصفية قضيتهم بصورة تدريجية.

وتسعى المبادرة المصرية اليوم للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وفتح معبر رفح، تتبعه مفاوضات ثنائية لمناقشة القضايا المصيرية في الصراع العربي الإسرائيلي.. لكن حكومة إسرائيل تصر على تجريد غزة من الصواريخ وعلى تدمير الأنفاق، بينما تصر المقاومة الفلسطينية على فك الحصار عن غزة بصورة نهائية، وإنشاء مطار دولي وميناء دولي يعبران عن خروجها من عزلتها إقليمياً ودولياً، وتطالب بضمان التواصل المباشر مع الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتمسك بخيار المقاومة إلى حين التوصل لحل سلمي وعادل وشامل للقضية الفلسطينية، يضمن حقوق شعبها المشروعة في الحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة على أرضه وعاصمتها القدس العربية.

وبات واضحاً اليوم أن حرب إسرائيل المفتوحة على غزة، أعادت فتح ملف الصراع المصيري بين مشروعين لا يلتقيان أبداً على أرض فلسطين.

Email