»أنيميا السياسة« في النظام العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

النظام السياسي العربي يعاني من أنيميا سياسية، أي فقر في تطور النظام السياسي انعكس بوضوح في أداء الأنظمة السلبي، الذي أثمر ثورات في دول وأزمات سياسية خانقة في دول أخرى.

ومعاناة الأنظمة السياسية هي في انفصالها عن الواقع، وخطورة الانفصال عن الواقع في الخلط بين الوهم والحقيقة، فحينما يعيش النظام السياسي في وهم مزيف، فهو لا يستطيع مواكبة المتغيرات التي تجري في مجتمعه أو في العالم. وحين يفشل النظام السياسي لدولة ما، فهو يهدد بانهيار الدولة أو ما يسمى بالدولة الفاشلة، وذلك في النظم السياسية الشمولية التي تربط بين الدولة والنظام، في صيغة مطورة لفظيا لمقولة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر »أنا الدولة والدولة أنا«.

فبمجرد ما ينهار النظام تصبح الدولة مهددة بالسقوط أو الانقسام، ونرى حاليا أمثلة في ليبيا والعراق وسوريا واليمن. هذه الأنظمة التي تحرص على خلق ترابط عضوي بين الدولة والنظام، وتعزز مفهوم الدولة العميقة في كل مفاصل الدولة، وهي تسعى في ذلك لترسخ أمن النظام واستمراره. فالقلق من تعرض النظام للسقوط، يدفعه لتركيز اولوياته في توطيد دعائم النظام، من مبدأ أنا ومن بعدي الطوفان.

والتطور هو الحركة الطبيعية لمنظومة الحياة، فكما يقال من لا يتقدم إلى الأمام يدفعه تيار الحياة إلى الوراء. فتوقف تطور المؤسسات السياسية جعل حراك النمو للدولة محدودا أو متعثرا، وهذا أدى إلى خلل في التنمية وارتفاع البطالة وغياب العدالة، وساهم في تخريج اجيال فاقدة للحلم والقدوة والطموح. إن الأنظمة السياسية التي تكبت الحريات وتعيش أزمة الهاجس الأمني، وفي نفس الوقت تفشل في تقديم نموذج تنموي يحقق طموحات شعوبها، تمهد لتغيير سياسي عاصف داخل دولها.

وفشل التنمية سياسي في المقام الأول، ولكنه ينعكس على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وينتج عنه غياب الطبقة الوسطى التي تعتبر صمام الأمان لأي مجتمع. فالطبقة الوسطى تلعب الدور الأهم في أي مجتمع نحو التحديث والتطوير المتدرج، وقيادة عجلة المبادرات الاقتصادية للمؤسسات المتوسطة والصغيرة.

ويمثل التغيير الديمغرافي في العالم العربي ونمو شريحة الشباب لتمثل الغالبية في المجتمعات، عاملا مهما في التغيير السياسي وفرض واقع جديد ومتسارع. وهذه المتغيرات لم تجد الفهم الكامل لها عند تلك الأنظمة، وذلك لانفصالها عن الواقع. وهذا الانفصال يراه بعض المفكرين في صورة تقزم سياسي لجسم عملاق، وكلما ازداد كان جرس إنذار عاليا على خطورة الوضع وربما لحالة انفلات كاملة. وقد راجت مفردة الإصلاح كثيرا في أدبيات الخطاب السياسي العربي، باعتبارها المخرج لأزمات الواقع السياسي العربي.

وهي مفردة ليست وليدة اللحظة، بل منذ بداية عصر النهضة في نهاية القرن التاسع عشر تحدثت النخب عن الإصلاح، سواء السياسي أو الديني، وقد تبنى ذلك مفكرون عرب مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده. وغاب هذا المصطلح في فترات الاستقلال لصالح مفردات الثورة والتحرير، ولكن بعد فشل الأنظمة السياسية التي جاءت بعد الاستقلال وغياب الحريات والديمقراطية وتعثر خطط التنمية، عادت مفردة الإصلاح وبصوت عال، وتم تصويرها على أنها الحل الناجع للأزمات السياسية العربية.

وهناك من استخدم الإصلاح كإجراءات شكلية تهدف لتنفيس الاحتقان الشعبي، والتواؤم ولو بالحد الأدنى مع متطلبات النظام السياسي العالمي، والظهور بمظهر النظام الذي يسعى للتطور والتحديث، فيما كانت أنظمة تستخدم نفس الأساليب المتكررة من نقل المعركة إلى الخارج، واستخدام اسطوانة مقاومة العدو ومحاربة اسرائيل، بهدف إشغال الشعب في حروب كلامية للتهرب من استحقاقات الشعب من الحرية والعدالة والتنمية والمشاركة السياسية، ومثال ذلك سوريا، التي لم تطلق رصاصة واحدة على اسرائيل، بينما هي الدولة الأكثر ترديدا لخطاب الصمود والتصدي، أو صدام حسين الذي هدد بحرق نصف اسرائيل، وبدلا عن ذلك اتجه لابتلاع الكويت.

صور تعكس حالة الكوميديا السوداء لواقع يستخف فيه بعقول الناس وفكرهم، وينسى كثيرون أن وسائل السيطرة على الشعوب عبر وسائل الإعلام التقليدية، لم تعد تجدي في ظل الانفتاح الهائل في وجود الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. فقد لعبت وسائل الإعلام الجديد دورا كبيرا في هز القناعات المتجذرة في عقل الفرد العربي، وأدت إلى زيادة الوعي السياسي والمعرفي، وأوجدت مساحة كبيرة بين الإعلام الحكومي أو شبه الحكومي والإعلام الجديد.

وقد اثبتت الثورات في تونس ومصر فعالية الأدوات التي وفرها الإنترنت، من حيث التأثير أو الحشد للقوى الاجتماعية، بينما لا تزال شريحة كبيرة من المسؤولين أو الإعلاميين تستخدم نفس اللغة والأساليب التي كانت رائجة في الستينيات، ويجهلون أن الشعوب أذكى مما كانت، وأن المتلقي اصبح في الغالب اكثر حصافة من المرسل.

تطوير النظام السياسي والتركيز على التنمية وبناء جيل عربي متعلم ومستقل فكريا ومساهم في الدورة الاقتصادية للإنتاج، هو الذي يقود إلى مستقبل مزدهر وناجح. أجندات الدول الكبرى تختلف حسب مصالحها، بينما التاريخ وتجارب الدول الأخرى تعلمنا أن قرار التغيير والتطوير يأتي من الداخل، فهو الوسيلة الأضمن لكي يكتب له النجاح.

Email