الإرهاب وتفكيك العقليات المفخخة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كان المونديال الكروي شكّل في الأسابيع الفائتة الحدث الأبرز على مستوى الحروب الرمزية للقوة الناعمة، فإن الحدث الثاني الذي شغل العالم وفاجأه، هو حدث إرهابي مضاد صنعه، على الأقل في الظاهر، تنظيم »داعش«، كما تمثل ذلك في اجتياحه جزءاً من العراق، بدءاً من »الموصل«، المدينة الثانية، حتى مشارف بغداد.

هل حقاً يفاجئنا »داعش« الذي هو أحد فروع »القاعدة« الخارج عليها، أو البديل عنها، للقيام بما عجزت هي عن الاضطلاع به؟

من السذاجة الاعتقاد بذلك، لأن الكل، من أميركا الى إيران، ومن المالكي الى حزب الله، ومن هذه الدولة العربية الى شقيقتها الأخرى، أو عدوتها، جميعهم أسهموا في صنع »القاعدة« أو في دعمها واستثمارها، من أجل الدفاع عن مصالحهم ومواقفهم، أو بسبب عجزهم وإخفاقهم في إدارة الأمور وإصلاح الأحوال، واليوم هي ترتدّ عليهم بما أنجبته من الأبناء والأحفاد الذين تجاوزوها في إتقان فن التكفير والقتل والتدمير.

ولا ننسى أن بعض من يدعي محاربة الإرهاب، هو إرهابي بامتياز، معتقداً ومسلكاً. وهكذا، فالكل هم من نفس الطينة والعقلية، الكل يصنع ضده الذي يدّعي محاربته، لكي يتواطأ معه على نشر الفوضى والخراب.

وإلا كيف نفسر لقاء أميركا وإيران بعد عقود من العداوة؟ كيف نفسر أن هذه الدولة أو تلك تكيل بمكيالين إذ هي تدعم المنظمات الإرهابية في مكان وتحاربها في مكان آخر؟ كيف نفسر هذه الفضائح والمفاسد حيث سيطرت الحكومات الدينية؟

التفسير أن لا أحد يدافع عن مبدأ أو عقيدة، عن حرية أو ديمقراطية، وإنما يدافع عن موقع أو مصلحة، ويبحث عن نفوذ أو سيطرة. وهكذا هم أعداء لا بسبب المبادئ، بل بسبب تضارب المصالح. وعندما تتغير المعطيات وتلتقي المصالح، يصبحون حلفاء متعاونين على محاربة الإرهاب الذي عملوا على خلقه ودعمه، لتسويغ شرعيتهم بالقبض على السلطة والبقاء فيها.

والنظر إلى الأمور بهذا المنظار، يكشف مدى الخداع والتبسيط في وصف الحروب والصراعات الدائرة في دول الشرق العربي، بأنها حروب طائفية ومذهبية بين مسلمين يتنازعون على المشروعية الدينية: من هو الأحق والأصدق في تمثيل الإسلام الأصولي الصحيح، أو من هو الأقرب في نهجه الى السلف الصالح؟ نحن إزاء تشكيلات مجتمعية وسياسية حديثة، يريد كل منها الحفاظ على موقعه الذي يخشى فقدانه، أو بالعكس يريد تغيير علاقات السلطة وموازين القوة لخلق معطيات جديدة ورسم خرائط جديدة.

أما دعوى الالتزام بتعاليم الإسلام وقيمه، فهي دعوى لا مصداقية لها، بل هي دعوة مستحيلة، بقدر ما هي استراتيجية قاتلة ترتدّ على أهلها بالدرجة الأولى.

والشاهد أن المسلمين الأوائل، رغم حروبهم وأخطائهم وإخفاقاتهم، ورغم ما انطوى عليه مشروعهم من جوانب معتمة أو مظلمة، فإنهم استطاعوا استيعاب خلاصة الحضارات والديانات القديمة والسابقة، لبناء حضارة جديدة ازدهرت فيها المعارف والعلوم والفلسفات، بالإضافة الى الفكر العقلي والتنويري، بقدر ما ابتُكرت أساليب ونماذج للعيش كانت صالحة وفعالة طوال قرون، ولكنها استهلكت وبات الأمر يحتاج الى التغيير والتجديد، هذا ما فعله من ندعي الاقتداء بهم: لقد ابتدعوا وجددوا وأضافوا.

أما ما يريده سلفيو العصر، فهو ترك كل ما هو في التراث إيجابي وصالح يمكن أن يستفاد منه ويجري استثماره وتطويره، للتمسك بما هو ضيق وعسير أو متشدد ومتطرف أو سلبي وعدواني، أي كل ما يحول العلاقة بالهوية الدينية الى محكمة جهنمية تحرم وتعاقب بقدر ما تعمل بمفردات الحقد والثأر والانتقام، على سبيل الإقصاء أو الاستئصال للآخر، ورفض كل ما أنجزته المجتمعات العربية قديماً وحديثاً، على الصعد الحضارية والمدنية والثقافية.

هذا ما تشهد به أعمالهم من تدمير الصروح والمعالم الأثرية، الى منع البنات من التعلّم بسجنهن أو بخطفهن والاعتداء عليهن، ومن إعدام رفاق الجهاد لأدنى خلاف، الى التفجيرات الانتحارية التي تدمر الممتلكات وتزهق أرواح الآمنين على هذا النحو الوحشي والعدمي.

من هنا يصعب أن تنجح محاولات مكافحة الإرهاب، ما دامت عدة الشغل هي ذاتها. لا بدّ من العمل على المستوى الثقافي لتفكيك العقليات المفخخة، التي تنفجر ألغاماً في أجساد الأبرياء من الناس. فالذي يلجأ الى تصفية خصومه السياسيين، هو الوجه الآخر لمن يخطف رجال الدين المسيحيين، والذي يعتدي على الكنائس هو الأخ العزيز لمن يحاول فرض ما يلتزم به من قواعد على من لا يلتزمون.

من هنا فالمخرج ليس في العودة الى الوراء، كما تريد السلفية الراهنة التي تخرجت منها التنظيمات التكفيرية على اختلاف مسمياتها، ولا بالتذرع بعلمانية مزيفة وحداثة تم تشويهها وإنتاج أسوأ النسخ عنها من جانب الأنظمة الاستبدادية.

المخرج هو مواصلة ما شرعت فيه المجتمعات العربية في مسيرتها الحديثة الى النهوض والإصلاح والتقدم، للمشاركة في صناعة الحضارة القائمة، على سبيل التطوير والإضافة، ما يعني أن مفاهيم المواطنة والديمقراطية والدولة المدنية والعالمية، إنما تحتاج الى إعادة الصوغ والابتكار. أما الدعوة الى إقامة حكم ديني تحت مسمى دولة الخلافة أو ولاية الفقيه أو الحاكمية الإلهية، فمآلها إعادة إنتاج الأزمات المستعصية التي نسعى إلى تفكيكها والتصدي لمعالجتها.

Email