الفرنجة لا يعرفون الوأد

ت + ت - الحجم الطبيعي

وضعت أمامي كالعادة صباح كل جمعة مجموعة من المجلات الأجنبية لأرى أين وصل »الفرنجة« و»بنو الأصفر« في مسالك الحضارة الواسعة، أما »العُربان« إلا من رحم الله وقليل ما هم، فأخبارهم لا تجلب إلا النكد والضيق ولا تسرّ حتى العدو لأنه اعتاد عليها ولم يعد بحدوثها غرابة أو يوجد بها أي »أكشن« يثير الفضول!

لفت انتباهي أن شركة Google ستقوم بتقديم سيارتها الذكية خلال السنوات الخمس المقبلة والتي تمكنك من النوم وأنت ذاهب من العاصمة إلى رأس الخيمة إذ أنها تقود نفسها بنفسها، فضلاً عن نظارتها التي تجعلك خارقاً »معرفياً« إذ بإمكانك تصوير ما تريد وتسجيل فيديو لما ترى وبمقدورك وأنت تتمشي في أكسفورد ستريت مثلاً أن تعرف ماذا أمامك من محلات وأماكن ومن أمامك من أشخاص لتجرّب فعلاً دور جيمس بوند »طبعاً ثلاثة أرباع الشارع حالياً من ربعنا الخليجيين« وسيسابقونك في اقتنائها للتعرف على أناس معينين، فاحرص على وضع اللثام كلما صادفت أحد مغاويرنا يلبسها!

ألتقط مجلة أخرى لأجد دان آكيرسون رئيس جنرال موتورز يقول: »إن لم تهاجم نموذج أعمالك Business Model بنفسك، فتأكد أن غيرك سيفعل ذلك بك«، تتضح الصورة أكثر وأنا أقرأ تقريراً في مجلة ثالثة عن شركة BMW والتي قررت إحداث تغيير جذري بنموذج أعمالها عندما رأت التوجه المتزايد لتخفيض انبعاثات الكربون كما يقول فريدريك ايكينر مدير التخطيط الاستراتيجي بها، فتم التوجه لإنتاج السيارات الكهربائية باستخدام ألياف الكربون لصناعة هياكلها وليس الألمنيوم أو الحديد كما يفعل منافسوها، ومعلوم أن ألياف الكربون أغلى بعشرين مرة عن الحديد.

وحتى لا يتبادر لأذهاننا أنهم »مغفلين« وبحاجة أن نبعث لهم أحد عُشّاق شهادات الآيزو لدينا الذي ربما تكون نصيحته: »ليش معورين روسكم بالسيارات، تعالوا نفتح مقهى شيشة يقدّم معسّل معتبر«، فإن الألمان تحديداً لا يتركون شيئاً للصدفة، تماماً كما كان »غسل شراع« منتخب البرازيل بالسبعة مخططاً له منذ أربعة عشر عاماً، والسبب أنّ السيارات الكهربائية بطيئة جداً ولتجاوز المنافسين لابد من تقديم سيارة أكثر سرعة وأخف وزناً فكان الرهان على ألياف الكربون لأنها أخف للغاية، وحتى لا يكونوا تحت رحمة أسعار السوق العالية قاموا أيضاً بشراء 16% من أسهم شركة SGL Carbon الألمانية الرائدة في صناعة هذه الألياف ثم 27% منها أيضاً من خلال التحالف الذي يملك شركة BMW ليبقوا دوماً متقدمين على منافسيهم بخطوات، فأن تكون مبكّراً خيرٌ من أن تنتظر صفعات المستقبل لتنبهك كم كنت نائماً في العسل قبل أن تصحو على مرارة »طاسة حلول«!

لماذا هم كذلك؟ لماذا لا يتوقفون عن الإبداع والابتكار؟ هل السر في الآلات؟ هل السر في التقنية؟ هل السر في نوعية الأثاث وأشكال المكاتب؟ لا بالتأكيد، فالسر دوماً في الإنسان المبدع الذي بمقدوره أن يخلق فارقاً كلما أُتيحت له الفرصة ومُنِحَ مساحةً من الثقة، وهي قضية كلما سمع بها العديد من مديري المؤسسات لدينا هزّ رأسه موافقاً على وجوب رعاية المبدع وفي قرارة نفسه يقول: »والله أنّك تخيس في قسم الأرشيف«، فلدى الكثيرين منهجية متعارف عليها لـ»تدجين« ذوي الأفكار الجديدة وتهميش الموهوب من خلال تأطيره في قالب »المشكلجي« غير المتعاون و»النافخ ريشه« والمتهوّر و»عطيناه فرص وايد لكن ما نفع«، فسعادة المدير هذا لا يرى أبعد من كرسيّه الذي يستميت للحفاظ عليه، ويرى كل شخصٍ جيد كتهديد محتمل لا بد من وأده في مهده وأفضل طريقتين للوأد المؤسسي لدينا إمّا أن يتم تحويل الموهوب لإدارة هامشية وبدورٍ هامشي أيضاً، أو برفع موظف أدنى منه موهبة وإنتاجية وقدرة ليكون فوقه ويكتم على بقيّة أنفاسه و»كفى الله المؤمنين القتال«!

لذا حتى تنجو من ذلك »الوأد« إن كنتَ والعياذ بالله موهوباً، لا بد أن تغلق فمك تماماً إلا من كلمات التأييد فقط وأن ترفع معدل لياقة رقبتك وانت تهزها لأي رأي يقوله مديرك وتقول »نعم« حتى ولو كان مما يضحك الثكالى والأرامل لسطحيته، ولا بأس أن تضيف عليها بهارات »ما شاء الله عليك انت أفكارك سابقة عصرك« أو »حرام مثلك يكون هنيه، انت مفروض وزير أو رئيس مؤسسة«، ولضمان عدم العودة لحفرة الوأد تلك نهائياً لابد أن تبحث عن قفل مثل أقفال »سحاحير العيايز« وتضعه على مخك، ولا تعمل فيها جاك ويلش أو ستيف جوبز، وكما يقول روبرت غرين في أول قاعدة للقوة »إيّاك أن تتذاكى على مديرك«.

إنّ الآخرين مثلنا ونحن نملك الكثير لكي نلحق بهم، لكننا نُطعن غدراً من بعض ذوي العقول الصغيرة والذي لا يسمحون للمؤسسات أن تُحلّق في فضاءاتٍ أرحب من خلال الشباب الموهوب بها، وما لم يؤخذ على أيديهم وإلا فإنّ المسافة ستتسع أكثر بيننا وبين »فرنجة« جوجل ورفاقها، ولو كان الأمر كله لفئة ذلك المدير الذي يعض على كرسيه بطريقة لا يقدر عليها حتى لويس سواريز لما سمعنا بسيارةٍ تقود نفسها ولربما كان الواحد منا ما زال على ظهر مطيّته وهو يترنّم فوقها قائلاً: »ناقتي يا ناقتي لا رباع ولا سديس.. وصليني لابتي من ورا ذيك الطعوس«!

Email