أثر القيم الأخلاقية في النهوض الحضاري

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أهم أسباب الرقي الحضاري ومقومات النهضة الحقيقية: التمسك بالأخلاق الفاضلة، سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو الاجتماعي أو الوطني أو الإنساني، فهي ركيزة أساسية في تهذيب السلوك الإنساني وتنظيم العلاقات على أسس قويمة من السمو الروحي والمعاملة الجميلة، وعنصر فعال في شيوع المحبة والألفة والتماسك والترابط في المجتمع، أفراداً وأسراً وشعباً وقيادة، ومنبع رئيس للتعايش السلمي البناء مع الأمم الأخرى.

ولذلك تضافرت النصوص الشرعية في الحث على حسن الخلق والتأكيد عليه. يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ويقول عليه الصلاة والسلام: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»، ويقول عليه الصلاة والسلام: «أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن»، وقال الله سبحانه مادحاً نبيه الكريم: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وقد اعتنى علماء المسلمين بهذا الباب عناية فائقة، وقدموا للمكتبة الإسلامية العديد من المؤلفات الجليلة، فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء.

وأول ذلك وأساسه: طهارة القلب وسلامة الصدر، فالقلب هو ملك الأعضاء، ومحل التقوى والمقاصد والنيات، وموضع نظر الرب سبحانه وتعالى، ففي الحديث: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فالجمال الحقيقي هو جمال الباطن، والقلب الحي هو القلب النقي الزكي الذي يتعبد لله بصدق وإخلاص،.

ويتعامل مع الخلق وفق المعاني الجميلة، فلا حسد ولا تكبر ولا تفاخر ولا رياء ولا سوء ظن، وبمقدار عناية المرء بصلاح قلبه ترتفع منزلته وتعلو درجته ويرتقي في تعامله مع الناس، وإنما ينتفع المرء بالعلم ويستقيم في العمل إذا كان هدفه هو تحقيق هذه الغايات، ولذلك قال العلماء: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال».

ومن ذلك أيضاً: سلامة اللسان واستقامة الكلمة، وبالخصوص مع تنوع الوسائل الحديثة للتعبير، كالمواقع الإلكترونية وأدوات التواصل الاجتماعي وغيره، فاللسان أعظم ما ينبغي العناية به بعد القلب، لأنه ترجمان القلب والمعبر عنه، وهو من أعظم الجوارح تأثيراً على صاحبه وعلى الآخرين بالنفع والضرر، ففي الحديث الشريف: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»، وفي الحديث الآخر: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان أي: تخضع له - فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا».

ولذلك ينبغي استخدام اللسان في ما ينفع، بأن يتحلى المرء بصدق الحديث والقول الجميل وحسن الحوار وإفشاء السلام ونشر العلم النافع، ويتجنب الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والفحش واللغو والقول بلا علم والسعي في الفتنة وسائر ما يضر، فكم من كلمة شر أورثت العداوات، وسعرت نار الحروب والويلات.

ومن ذلك أيضاً: العناية بالأخلاق المتعلقة بسائر الجوارح، من بر الوالدين، وصلة الأرحام والأقارب والجيران، وحسن معاشرة الناس بالبشاشة والطلاقة، وأداء الأمانة إلى أهلها، والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين، وإصلاح ذات البين، والسعي في الوحدة والاجتماع، ونبذ الفرقة والاختلاف، واجتناب الظلم والاعتداء بكافة صوره، فإن خطر الإفلاس الخلقي عظيم، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس؟» قالوا:

المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»، أجارنا الله جميعاً من ذلك.

ومما تتأكد العناية به أيضاً:إظهار صورة الإسلام المشرقة مع غير المسلمين في المعاملة الجميلة، فقد ورث المسلمون من تعاليم دينهم وأخذوا من سير أسلافهم منظومة أخلاقية عالية فريدة، أبهرت القلوب التائهة وخلبت النفوس الحائرة حتى اهتدت بها إلى عظمة هذا الدين الحنيف وسمو الحضارة الإسلامية ورقيها، فكم من أناس أكنوا للإسلام وأهله العداوة الشديدة، ثم انزاحت عن أعينهم الغشاوة لما عاينوا التعاليم الإسلامية السامية بصدق وتجرد، وكم فتح الله من قلوب على يد المسلمين الأوائل العظماء النبلاء بأخلاقهم الرفيعة، فكانت أخلاقهم رسالة ماثلة ومشاعل مضيئة للبشرية.

فما أحوجنا اليوم إلى أن نتمسك بأخلاقنا ونعتز بها، لنستظل بها في وافر المحبة والإخاء والترابط، ولنظهر بها للأمم الأخرى عظمة هذا الدين وجلاله وبهاءه.

 

Email