الربيع المصري.. بطعم الإرادة والوحدة الوطنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عصر بناة الأهرام في الدولة المصرية القديمة، وبالتحديد في الاحتفال الشعبي الكبير مع بداية فصل الربيع من كل عام، حيث تتفتح الأزهار في الحدائق، ويحتفل الفلاحون في الحقول بيوم الحصاد، كان يوم «شم النسيم» هو اليوم الذي ينظر إليه المصريون القدماء باعتباره يوم «بعث الحياة»، وهي الترجمة العربية لكلمة «شمو» الهيروغليفية، وهو اليوم الذي تتساوى فيه مساحة الليل بمساحة النهار، حسبما تواترت الروايات التاريخية.

وكان المصريون الأوائل على مر الأعوام، حسبما تشير الروايات، يجتمعون معاً في مقابل الواجهة الشمالية للهرم الأكبر، ليشهدوا ظاهرة سنوية عجيبة قبل الغروب، عندما كان قرص الشمس يقترب بلونه الأرجواني تدريجياً من قمة الهرم المثلثة، التي كانت مكسوة بصفائح ذهبية، تنعكس عليها أشعة الشمس من بعيد، وكان المصريون يرقبون باهتمام حركته الهادئة حتى يستقر موقعه فوق قمة الهرم، فيشتعل الناس فرحاً وغناءً بهذا المشهد المثير.

وفي تلك اللحظة يبدو المشهد الربيعي العجيب أكثر إثارة، عندما تخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت إلى قسمين.. وما زالت هذه الظاهرة العجيبة تحدث مع مقدم الربيع قبل الغروب، نتيجة سقوط أشعة الشمس بزاوية معينة على الواجهة الجنوبية للهرم، فتكشف أشعتها الخافتة الخط الفاصل بين مثلثي الواجهة، اللذين يتبادلان الضوء والظلال فتبدو وكأنها نصفان!

وتشير الدراسات التاريخية إلى أن العالم الفلكي والرياضي البريطاني «بركتور»، رصد هذه الظاهرة، وتمكن من تصوير لحظة انشطار واجهة الهرم عام 1920، كما استطاع العالم الفرنسي «أندريه بوشان»- في عام 1934- تسجيل تلك الظاهرة المثيرة، باستخدام الأشعة تحت الحمراء. من هنا كان اهتمام المصريين منذ القدم بعيد شم النسيم، خاصاً جداً، وحتى اليوم.

وقد توافق هذا اليوم الثري المعاني، مع اليوم الذي اتخذه اليهود في ما بعد بداية رأس السنة العبرية ويوم «عيد الفصح»، وتروي روايات غير مؤكدة أنه يوافق يوم خروج سيدنا موسي عليه السلام مع قومه بني إسرائيل، من مصر إلى فلسطين عبر سيناء، بعد أن تلقى الرسالة الإلهية، ليبشر قومه بالدين السماوي الجديد، وكان هذا الخروج التاريخي هرباً من فرعون مصر، الذي لم يتأكد حتى الآن من هو بالتحديد، وإن كانت رواياتهم تتحدث عن الملك « رمسيس الثاني»، أشهر ملوك الدولة المصرية الحديثة.

كما يتواكب يوم شم النسيم من كل عام، مع يوم الاثنين التالي ليوم الأحد، الذي يوافق احتفالات «عيد القيامة» عند الإخوة المسيحيين المصريين الشرقيين، الذين يطلق عليهم «الأقباط»، بينما كلمة «قبط» تعني الكلمة اليونانية «جبت» التي تطلق على مصر، ومن هنا فلا غرابة في أن تكون كلمة قبطي يمكن إطلاقها على المواطن المصري المسلم، مثلما تطلق على المواطن المصري المسيحي.

ولهذا فمن حول يوم «شم النسيم» الفرعوني، تتجمع احتفالات المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين ويهوداً، في ما يعرف «بأعياد الربيع». وتتجدد احتفالات المصريين بالربيع وأزهاره في الحادي والعشرين من شهر أبريل كل عام، توافقاً مع يوم «شم النسيم» الذي يحتفل به المصريون القدماء، والمعاصرون على اختلاف أديانهم وطوائفهم، منذ آلاف السنين إلى اليوم، من عهد بناة الأهرام إلى عهد بناة السد العالي!

إن عبقرية الشعب المصري الذي بهر العالم بحضاراته العريقة في الماضي، التي لا تزال آثارها الباقية في «أم الدنيا» خالدة وشاهدة.. ما زال قادراً على إبهار العالم في الحاضر، بإصراره على صنع الحياة وتحديه ثقافة الموت، التي يريد أعداؤه في الخارج وأدواتهم في الداخل أن يغرق فيها.

فمع الربيع لم يأبه المصريون بالتهديدات الإرهابية، ولا بالتوترات الأمنية، ولا بالأجواء السياسية الساخنة مع بداية الحملات الانتخابية الرئاسية، وخرجوا يحتفلون بالربيع المصري، بمشاعر من البهجة والإصرار على الفرح، في الحدائق، وعلى صفحة النيل الخالد، وعلى الشواطئ وفي الأماكن الأثرية، وفي الحقول الزراعية، متبادلين التهاني احتفالاً بثقافة الحياة، وبالأخوة الإنسانية، وبالوحدة الوطنية.

ولهذا بقي فارق كبير بين الربيع المصري، وما يسمى بالربيع العربي، في الشكل والتاريخ والمضمون، وفي اللون والطعم والرائحة.

فبينما بدا أن هناك «ربيعاً عربياً» يلوح في الأفق، ونتيجة للتدخل الغربي ولعسكرة الثورات وللاقتتال الأهلي، بما سمح للإرهاب باسم الدين والمذهب أن يتسلل ويتمدد ويطبع الثورات بطابع الإرهاب بهدف إسقاط الأوطان لا إسقاط الأنظمة، في غياب وعي عربي عن إدراك المخاطر وحقيقة اللعبة، كانت احتفالات بعض الأشقاء العرب بما توهموه ربيعاً، تختلط بكل أسف، بمشاعر الخوف من أزيز الرصاص، وتهديدات الإرهاب والسيارات المفخخة، ونزيف الدماء ومخيمات النزوح في الوطن، وبمشاعر الغربة في المنافي ومعسكرات اللجوء خارج الوطن، إضافة إلى ما يغمرها من أسىً على الآلاف من الشهداء والضحايا طلباً لهذا الربيع الذي وجدوه شتاء!

كما كانت احتفالات جل المصريين بربيعهم هذا العام خصوصاً، بعد ثورة الثلاثين من يونيو الشعبية، غامرة بالبهجة والفرح في ظل أمن نسبي يظل الوطن، ومستقبل يتطلع إليه المصريون بعد صياغة دستورهم، وعلى مقربة من انتخاب رئيسهم القائد وبرلمانهم العائد، وعلى الأخص، بعد ثورتين شعبيتين سلميتين باهرتين، بحماية جيش الشعب في كل مرة بدت كل واحدة منهما وكأنها الربيع، قبل أن تداهمها على مدى السنوات الثلاث الماضية رياح الخماسين العاصفة وأعاصير الإرهاب الدامية!

لكن إرادة الشعب المصري وإصراره على الحياة، وعلى دحر الإرهابين، دعاة الموت والخراب، تحت كل العناوين، وتصميمه على بناء مستقبله الآمن في دولته المستقلة العادلة، دولة الحق والقانون، بالتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والكرامة الإنسانية، ستبقى قادرة، بعون الله، على صنع الحضارة المعاصرة اليوم، كما شيّد المصريون القدماء في الماضي حضارتهم العريقة.

 

Email