العراق وآفاق عودة الاستبداد

ت + ت - الحجم الطبيعي

كما للديمقراطية ثقافة يتزين بها بعض أوساط المجتمع التي تنتمي فكرياً وسلوكياً لهذا النهج وتستمد منه قوتها وشرعية وجودها، كذلك للاستبداد ثقافة يستمد منها قوته، وليس شرعيته لأنه لا شرعية للاستبداد. والثقافة الديمقراطية ليست لها رموز قوية تراثية في منطقة الشرق الأوسط.

كما للثقافة الاستبدادية التي توظف التاريخ وأحداثه لخدمتها، حين تتخذ من أبطال المعارك وفاتحي الدول الأخرى أيقونات للتعظيم والتدليل على عظمة الحقب التاريخية التي صنعها وتألق فيها هؤلاء، ثقافة تستند إلى تعظيم وتمجيد القائد الفرد.

حين يرد مصطلح "الاستبداد" بطريقة تخلو من الاستنكار أو الإدانة، بل بقدر من الحنين لحقبة هيمنته على لسان أناس غير قليلين في المجتمع العراقي، وحين تخصص ندوات تلفزيونية في بعض الفضائيات لمناقشة ذلك.

فالأمر يتطلب التوقف للتمعن في هذه الظاهرة غير الصحية في مجتمع عانى ما عاناه من حقب الاستبداد والتسلط والتهميش. إنه تحصيل حاصل أن تصبح فكرة الحكومة القوية والزعيم القوي أو المستبد الذي يفرض النظام ويحقق للمواطن أمنه ويوفر قوته، بعض الجاذبية لدى بعض الأوساط في المجتمع العراقي، في الأجواء المحبطة والزاخرة بالسلبيات على مختلف المستويات، التي تسود العراق منذ سقوط النظام السابق.

مصطلحات مثل "الاستبداد" و"الدكتاتورية" يزداد تكرارها مع تزايد حرارة الحملات الانتخابية في أحاديث الساسة العراقيين وفي تصريحاتهم، حيث ينسبون هذه الصفات لرئيس الوزراء نوري المالكي. فهو متهم من قبل خصومه وحلفائه على السواء، بأنه يتجه بالعراق ويأخذه من جديد نحو الدكتاتورية، بقناع زائف من الديمقراطية والشرعية.

لسنا هنا بصدد الخوض في هذه التهم فقد قيل فيها الكثير، إلا ان من الضروري أن نذكر بأن رئيس الوزراء رغم هذه الاتهامات، غير قادر على تكميم أفواههم وأفواه غيرهم، وهذا في الحقيقة أحد أبرز الأدوات التي يفتقر إليها ليستكمل مسعاه نحو ترسيخ حكم الفرد من جديد، وذلك لأن الدستور لا يسمح له بذلك، على الرغم من أن وسائل كثيرة لتكميم الأفواه قد جرى اللجوء إليها، حيث يشهد السجل الطويل لضحايا الإعلاميين على ذلك.

من المفارقات التي تستوقف الراصد للوضع السياسي في العراق، ملاحظة أن قوى المعارضة للنظام السابق التي دأبت على اتهامه وإدانته بالطغيان والاستبداد والتفرد بالحكم، تتهم بعضها وقد استلمت الحكم بالتهمة نفسها، فما هي الجذور لنزعة الاستبداد؟ ومن أين يستمد المستبد قوته؟

هناك أسباب موضوعية وليست ذاتية، هي التي تصنع الاستبداد، إذ تشير دراسات سيكولوجية، ببعض الحذر، إلى أن جذور الدكتاتورية ترجع إلى طبيعة الثقافة الأسرية التي ترسم معالمها علاقة الطفل بوالديه، وهي علاقة تختلف من بيئة لأخرى. فإذا كان للأب الحق في إجبار الأطفال على اتباع نمط معين من السلوك ورسم مسار حياتهم، كما هو الحال في أغلب المجتمعات الشرقية.

وهو مما لا يثير الرفض والاعتراض في هذه المجتمعات، فإن هذا الأب يفترض أن يكون له الحق في إجبار البالغين على ذلك حين يصبح في موقع من يرعى مصالحهم، موقع القيادة في الدولة وليس في الأسرة. من جانب آخر، لا يجد البالغون غضاضة في ذلك، طالما أنهم ألفوا هذه الوصاية على جميع ما يتعلق بشؤونهم منذ نعومة أظفارهم.

ثمة أمر آخر على قدر كبير من الأهمية يختص بالواقع العراقي، وهو النشأة السياسية للغالبية العظمى من المنخرطين في العملية السياسية. فانتماء الفرد إلى حزب أو منظمة سرية، يستوجب العمل فيها أقصى درجات الالتزام والانضباط والسرية، حيث تقتصر مديات معرفته على حيز صغير من المنظمة الحزبية وأشخاصها وقياداتها. وتتصف طبيعة العمل فيها بما تفرضه ظروف العمل السري، وهي علاقات الخضوع والطاعة للقيادة، كما هو الحال في التنظيمات ذات الطابع المليشياوي.

الاعتياد على هذا النوع من الممارسات على مدى سنين طويلة، يترك رواسب من الصعب تجاهل تأثيراتها على سلوك هذا الفرد حين يتحرر من قيود العمل السري، إلا أنه لا يتحرر من قيود ثقافة العمل السري التي تأصلت لديه، وأصبحت تتحكم في أسلوب مقارباته للقضايا، وتضفي خصائص لا يمكن تجاهلها على طريق تعامله مع الآخرين حين يتولى أحد مواقع المسؤولية في الدولة. والحقيقة أن معظم من شغل المراكز القيادية في منظمات من هذا النوع، هو من تعرض أكثر من غيره للمطاردة.

غير أن مقدار التضحيات وحجم ما يتعرض له الفرد من ظلم واضطهاد في حقبة سياسية معينة وهو عضو في تنظيم سري، لا يعتبر رصيدا يحسب له ليتبوأ مركزا قياديا في الدولة في حقبة لاحقة، ما لم تتوافر لديه المؤهلات لإشغال هذا المركز، فمعايير الأهلية لتولي الحكم والمسؤولية في الدولة، ليست هي المعايير ذاتها لتولي المراكز القيادية في الأحزاب والتنظيمات السرية.

أمر آخر تنبغي الإشارة إليه ويسهم في تعزيز النزعة نحو الاستبداد، وهو طبيعة الدستور ومقدار الصلاحيات المتاحة لمن يتبوأ المنصب الأهم في البلد، رئيساً للدولة أو رئيساً لوزرائها. فالمعروف أن النظام الرئاسي المتبع في بعض الدول الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، يتيح للرئيس المنتخب مباشرة من الشعب صلاحيات واسعة، تسمح له أحياناً بتجاوز وتخطي المجلس النيابي المنتخب من الشعب أيضا.

الدستور العراقي يتيح هذه الصلاحيات الواسعة لمجلس الوزراء، وليس لشخص رئيس الوزراء. كما أن طبيعة العملية السياسية تحت مسمى حكومة الشراكة الوطنية، حيث تنعدم الخطوط الفاصلة بين الحكومة والمعارضة، أو بالأحرى ينعدم وجود معارضة برلمانية حقيقية، تتيح المجال لرئيس الوزراء لأن يتفرد في الحكم وبصناعة القرار، مع الحاشية المقربة منه.

المستبد يستمد بأسه وقوته من ضعف الآخرين وعدم فاعليتهم، وربما من سلبيتهم، والممارسات الديمقراطية تكشف حقيقة من يلج العمل السياسي، فهو عمل في دائرة الضوء وليس في الظلام، وحين نتأمل الممارسات التي يلجأ إليها قادة الكتل السياسية، نجدها مليئة بالثغرات التي لا تتفق مع الطروحات الديمقراطية.

 

Email