روسيا والمسألة الأوكرانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن استتب لروسيا ترتيب أوضاع شبه جزيرة القرم كجزء لا يتجزأ من روسيا الاتحادية، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأسباب الحقيقية وراء التحرك الروسي في منطقة القرم، مُشيراُ إلى أن روسيا ما كان بوسعها السكوت على الترتيبات الأطلسية في خاصرتها الجنوبية الأكثر حساسيةً وتأثيراً على وضعها الجيوسياسي. ذلك حديث سمعه القاصي والداني، لكن ما لاحظه المراقبون أيضاً، أن ترويكا الكرملين أدارت اللعبة السياسية بدهاء مقرون بالثبات على الخيار، فجمعت بين شجاعة الأسد ودهاء الثعلب، لتقلب الصورة الَّلزجة المألوفة عن دبلوماسية وسياسات روسيا لما بعد البريسترويكا.

لقد نبعت تلك الإدارة الجامعة بين الاستئساد والدهاء، في الاستخدام الذكي لكافة الأوراق القانونية التي تخوِّل روسيا حق التوسع نحو شبه جزيرة القرم وغيرها من أفلاك الاتحاد السوفييتي السابق، وذلك من خلال المقدمات القانونية التي استفادت منها، وأبرزها فكرة اتحاد الجمهوريات المستقلة.. الوريث للاتحاد السوفييتي، والقائم على طوعية الرغبة الإقليمية في الاتحاد مجدداً مع روسيا، ضمن تسمية فضفاضة تسمح بتحقيق الهدف دونما حاجة لجعجعة الأسماء والمُسميات، وكذا الترتيبات القانونية الخاصة بالجمهوريات الخارجة من رحم الاتحاد السوفييتي، مما يسمح لجمهورية القِرم الأوكرانية ذات الحكم الذاتي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بإجراء استفتاء تقرر به مصيرها.

وإلى ذلك كان التفكيك المنهجي التوافقي للاتحاد السوفيتي مقروناً بترتيبات قانونية في بلدان الفلك السوفيتي السابق، تسمح بخيار الانفصال عن روسيا أو الاتحاد معها، كما حدث بالضبط مع إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، وهو ذات السيناريو الذي تكرس راديكالياً في حالة القِرم، باعتبار حقها في تقرير المصير، وهو الأمر الذي لم تسكت عنه أوكرانيا المتبقية فحسب، بل الغرب السياسي أيضاً، وبغض النظر عن التلويحات غير المجدية بالعقوبات.

وإلى ذلك استخدم الكرملين نظام الأفضليات الاستثنائية لصالح القِرم، بالإضافة إلى عمق التواجد الديمغرافي الروسي، مستفيداً من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها اليمين القومي الأوكراني حالما استولى على السلطة في كييف. ومن أفدح تلك الأخطاء إعلان اللغة الأوكرانية لغة رسمية وحيدة، وإدارة الظهر للُّغة الروسية الأكثر انتشاراً، ولغة تتار القرم المسلمين، وغيرهما من لغات محلية، وهو الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في رغبة الأوكران ذوي الأُصول الروسية والتترية، بالانضمام إلى موسكو.

اليوم تتراجع السلطة الأوكرانية عن قرارها، ولكن بعد فوات الأوان، ذلك أنها ليست في وارد مقارعة جمهورية القِرم الملتحقة بروسيا فحسب، بل أيضاً شرق أوكرانيا الثائرة ضد النظام الجديد.

سلسلة الأخطاء القاتلة لسلطة كييف الخارجة من تضاعيف الأزمة، تُوجت بتلك الفداحة الكبرى، حينما تشكَّلت حكومة ما بعد الإطاحة بنظام يانكوفتش من قبل أوكرانيي الشمال والغرب حصراً، وكانت تلك الخطوة بمثابة جرس إنذار لأهل الشرق والجنوب، سواء كانوا من أُصول روسية أو من القوميات الأُخرى.

لقد أدركت الجمهوريات المجاورة لأوكرانيا هذه الغلطة، وتلافت تلك التداعيات السلبية، وكانت مولدافيا ذات القومية الرومانية في الغالب، من الذين تنبهوا لمحنة الانجراف نحو النزعة القومية الشوفينية، ولهذا ظلَّ الصمت المطبق تجاه تطورات الأوضاع في أوكرانيا سمة غالبة في أغلب بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، بل تمدد ليشمل شرق أوروبا التي ما زالت تعاني من رجيم الانتقال إلى النظام الرأسمالي بشكله المعاصر، الأكثر جذرية وإيلاماً للطبقات الوسطى.

ولم تستخدم موسكو كل أوراق الضغط دفعة واحدة، بل عملت بتدرُّج ذكي يخاطب مصالح أوروبا الغربية عامة، ولا يُناجز الفعل برد فعل غير مدروس. ومن هنا نستطيع قراءة كلام بوتين الأخير حول استعداد روسيا لمساعدة أوكرانيا، والتفاهم مع أوروبا الأطلسية، واعتبار ورقة الغاز الروسي قابلة للتسوية، وعدم التخلِّي عن الواجب تجاه الشقيقة أوكرانيا، رغم النظام القائم الذي لا تعترف به روسيا!

وخلال الأيام القليلة الماضية تعمَّدت روسيا إشهار تصديرها الكمي الوفير لنفط الشمال السيبيري، وكأنها تقول لدعاة مقاطعة روسيا إن البدائل جاهزة، والخيارات مفتوحة على أزمة لن تنال روسيا وحدها، بقدر أثرها المؤكد على أوروبا الغربية والاقتصاد العالمي عامة.

الجديد الأكثر أهمية في روسيا ذاتها، يتمثَّل في الشعبية الكبيرة التي نالها بوتين، فقد أشارت الاستقراءات الأخيرة إلى أنه ينال الآن شعبية قل نظيرها في العهود السوفييتية، وما بعد السوفييتية. ولعل شفافيته البالغة في مخاطبة الشارع الروسي، كان لها أثر كبير في هذا المد الشعبي الذي لا يخلو من نزعة قومية روسية.

كل هذه المقدمات لا تعني أن روسيا قد سوَّت أرضية الملعب نهائيا، فالتحديات ما زالت قائمة في شرق أوكرانيا، والعقوبات المفروضة أطلسياَ قد تتمدد في بلدان أخرى، والحروب الساخنة بالوكالة في الشرق الأوسط حصراً، ما زالت سجالاً ساخناً لم يفض إلى نتيجة نهائية، والتحالف الروسي الصيني ما زال في منطقة وسطى، مزاجها النمط الصيني في التعامل مع قضايا الخارج الملتبس بالإشكالات.

روسيا الجديدة خرجت من رماد المتاهة، لتستعيد مجد الإمبراطوريتين القيصرية والسوفييتية، ولكن بنَفَس قومي وإنساني مغاير لما كان في الماضي.. وفي المقابل تتأرجح الولايات المتحدة الأميركية بين حكمة الديمقراطيين المثابرين على التغيير، وجنون الجمهوريين الجدد المقيمين في ثقافة الماضي.

 

Email