إشكالية كتابة تاريخ عربي موحد

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكّل التاريخ العربي مكوناً أساسياً في الثقافة العربية والإسلامية. وبدأت الدراسات تأخذ منحى علمياً عند تدوين الأحاديث النبوية، ثم تعددت الأسباب الموجبة لضبط الروايات التاريخية حول نشأة الدولة الإسلامية وتطورها بعد الفتوحات، وتوثيق الأنساب، والأعمال الإدارية، والمشكلات الاجتماعية، وغيرها.

وبرزت أسماء المؤرخين الأوائل من أمثال الطبري، والمسعودي، والسخاوي، والبلاذري، والواقدي، وغيرهم. ثم اتجهت الكتابة التاريخية إلى دراسة تطور المدن، وحركات العامة، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وحده ابن خلدون تفرد عن باقي المؤرخين العرب بتقديم نظرية علمية متكاملة، لفهم التاريخ العربي والإسلامي عبر مقولات نقدية، وبلور فلسفة على درجة عالية من الأهمية في كتابة التاريخ، رسم فيها مغالطات المؤرخين، ودور العصبية في بناء الدولة، وأطوار الدولة، وغائية التاريخ، ومدى استفادة الأجيال المتعاقبة من دروسه وعبره.

لكن قلة من المؤرخين العرب استفادت من مقولات ابن خلدون النقدية، وكثيراً ما كان يدرس التاريخ العربي بمعزل عن التاريخ العالمي، مما أفقد الدراسات التاريخية العربية القدرة على إبراز أثر الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الغربية الحديثة، وموقع التاريخ العربي في التاريخ العالمي، ومدى إسهام العرب في الحضارة الإنسانية.

مؤخراً، كلّفت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الدكتور عبد العزيز الدوري بإعداد موسوعة التاريخ العربي، لكنها تعثرت لسنوات عدة قبل أن يصدر بعض أجزائها غير المكتملة، وفور نشرها تعرضت لانتقادات كثيرة، استوجبت إعادة النظر فيها. وغالباً ما تكون إعادة النظر بمثابة كتابة جديدة، استناداً إلى قراءة المصادر التاريخية برؤية مغايرة.

هكذا تبدو كتابة التاريخ العربي الموحد فردية، ولم تنتظم ضمن مشروع عام لكتابة تاريخ العرب الشامل، وفق مخطط متكامل يقدم تاريخ كل دولة عربية بشكل مكثف، ومن خلال منهج علمي ديناميكي يتضمن مقولات ثقافية ذات صدقية توثيقة وتحليلية، من حيث الفرضيات والاستنتاجات، وتقيم التوازن بين التاريخ الوطني والتاريخ القومي، في إطار التاريخ العالمي الشامل أو الجامع.

إن كتابة التاريخ العربي لا تزال عرضة لتبدلات جذرية، على قاعدة أن التاريخ يكتبه المنتصر. لكن المنتصر العربي غير محدد المعالم، ونادرا ما نال ثقة الناس ليمارس الحكم بصورة شرعية.

وباستثناء دراسات علمية ذات طابع اقتصادي واجتماعي ومسندة إلى وثائق ذات صدقية عالية، تكاد تنعدم الكتابة التاريخية التي تقدم صورة موضوعية عن أي نظام سياسي عربي، غير قابلة للتغير الجذري فور تبدل السلطة، وتراجع تدريس التاريخ الوطني الموحد والعربي العام، في غالبية الدول العربية، وفي مختلف مراحل التعليم.

ومع أن مناهج البحث العلمي في التاريخ الغربي قدمت نماذج هامة، تمكن الاستفادة منها لقيام منهج أصيل للبحث في التاريخ العربي، فإن غالبية الدراسات التاريخية العربية ما زالت تشكو غياب الدقة والموضوعية.

وليس صدفة أن تفتقر المكتبة العربية إلى موسوعة تاريخية واحدة، تعبر بدقة عن تاريخ العرب العام أو الشمولي عبر مختلف الحقب التاريخية. ورغم المبالغ المالية الكبيرة التي رصدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لكتابة موسوعة التاريخ العربي بطريقة علمية، فإن التجربة باءت بالفشل، ولم تتجدد.

نخلص إلى القول إن كتابة تاريخ موحد، في كل دولة عربية أو على المستوى العربي العام، قليلة أو نادرة، وما نشر في هذا المجال لا يتطابق مع نظرة كل دولة إلى تاريخها الوطني أو المحلي. وذلك يتطلب بذل جهود كبيرة للتدقيق في المرويات التاريخية، التي لعبت دوراً بارزاً في نشر ثقافة تاريخية عامة تفتقر إلى الدقة.

ولا بد من إعداد جيل واسع من المؤرخين الاجتماعيين، القادرين على كتابة التاريخ بصورة موضوعية، استناداً إلى مقولة علمية تؤكد أن علم التاريخ من أكثر العلوم الإنسانية انفتاحاً على فروع المعرفة البشرية. وهو علم متطور باستمرار، وغايته رصد وتحليل أعمال الناس في أماكن عملهم، وعلى المدى الزمني الطويل.

المنهج الاجتماعي الذي يتضمن السياسي والاقتصادي والثقافي، هو الركيزة الصلبة لكتابة تاريخ علمي على مختلف الصعد. كما أن البحث التاريخي الرصين، يستوجب نقد المرويات التاريخية العربية لإثبات صدقيتها قبل الاعتماد عليها. وليس التأريخ عملاً أكاديمياً فحسب، بل يحتل موقعاً متقدماً في مجتمع المعرفة الذي تنشده الدول العربية دون أن تحققه.

وينبني مجتمع المعرفة على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، التي تساعد المؤرخين العرب على تقديم قراءة جديدة لتاريخهم الوطني، وفق رؤية شمولية لموقع العرب في التبدلات العالمية المتسارعة في عصر العولمة.

فالحقائق التاريخية نسبية ومتبدلة باستمرار، والنظرة إلى التاريخ تتغير عند الكشف عن وثائق جديدة، واعتماد مناهج علمية عصرية تساعد على تقديم الحقائق التاريخية بصورة أكثر دقة وموضوعية.

وفي عصر العولمة والتكتلات الجغراسية الكبرى، لم يعد هناك مجال لكتابة تاريخية إيديولوجية تمجد الماضي الذهبي وتدعو إلى إحيائه في الحاضر. ولا بد من اتباع منهج علمي تطوري في دراسة تاريخ العرب، لإظهار مدى مشاركتهم في التاريخ الإنساني ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

لقد لعبت اللغة العربية عامل تواصل مستمر بين الشعوب العربية، وحافظت على التراث العربي والهوية العربية، وكان لها دور بارز في تحديد خارطة الوطن العربي في التاريخ العالمي.

لكن البحث في التاريخ العربي ما زال أسير مفاهيم تاريخية تقليدية، تجاهلت، في الغالب، النظريات العلمية الحديثة في دراسة تاريخ المجتمعات على أسس علمية، أبرزها وضوح المنهج والفرضيات. ولا تستقيم كتابة التاريخ العربي عبر مختلف حقبه، إلا عبر النظر إليه بعيون الحاضر وثقافته الكونية.

وليس المطلوب إعادة كتابة التاريخ باستمرار، بل كتابته دوماً بعيون الحاضر، وبرؤية علمية رصينة. ولا فائدة تذكر من رفع شعارات إيديولوجية لم تثبت صدقيتها في كتابة التاريخ العربي، وفق رؤية قومية عربية أو إسلاموية إيديولوجية تلغي خصوصية التاريخ الوطني.

ولا تستقيم كتابة التاريخ الوطني دون ربطه بالتاريخ العام، القومي والعالمي، وفق رؤية شمولية للتبدلات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي شهدها العرب منذ تشكلهم كمجموعة بشرية تعيش حياة اجتماعية واقتصادية وثقافية متشابكة، يؤثر بعضها في البعض الآخر.

 

Email