روسيا والقرم وتنبؤات نيكسون

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل التاريخ يعيد نفسه؟ هل هي بوادر حرب باردة جديدة بين القطبين القديمين الجديدين، الولايات المتحدة وروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي المنهار؟ علمنا التاريخ كما يقول ألدوس هكسلي، أن أهم شيء في دروس التاريخ، والتي لا نعيرها عادة الكثير من الاهتمام، هو دروس التاريخ.

روسيا اليوم بشكل جديد وخطاب جديد، وهي المدفوعة بالغبن من تجاهل الغرب لها، واندثار تاريخها وهيبتها. الآن يحركها حس قومي متنامٍ، عكسته الشعبية العالية التي حققها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد قراره ضم القرم إلى روسيا.

روسيا التي تسعى لرسم سياسة جديدة تستعيد بها هيبتها ومكانتها الدولية، تضع خطوطاً جديدة لمعالم استراتيجية تغير من واقع العلاقات الدولية.

فروسيا اليوم واقع قوي وتفرض نفسها من خلال وجودها كعضو دائم في مجلس الأمن، مما مكنها من عرقلة مشاريع سياسية مهمة وقفت أمام الفيتو الروسي. ووضح ذلك في الأزمة السورية التي انحازت فيها روسيا وبشكل واضح إلى النظام السوري، متجاوزة الجوانب الإنسانية والأخلاقية.

ومن الواضح أن روسيا وجدت في الأزمة السورية مساحة لإعادة دورها، وتأكيد وجودها في خارطة السياسة الدولية. تزامن ذلك مع تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية لروسيا، وتجدد روحها القومية التي جرحت بفقدان إمبراطوريتها الشاسعة فيما كان يسمى الاتحاد السوفييتي.

ووضح وجود النزعة القومية التوسعية التي خمدت، ليس نتيجة تغير سياسات وقناعات، ولكن الظرف الاقتصادي والواقع الدولي في ذاك الوقت جعلها تحت الرماد، لكنها مع "القيصرية البوتينية" عادت يغذيها النمو الاقتصادي واحتياج أوروبا للغاز الروسي.

ومن يقرأ كتاب الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون "seize the moment" أي اقتنص الفرصة، الذي صدر في 1992 وترجمه إلى العربية السفير محمد زكريا إسماعيل، يجد أن التوقعات التي ذكرت في الكتاب تتحقق. فهو يشير إلى "احتمال قيام عهد إمبريالي جديد لا يقوم على الشيوعية، بل على القومية الروسية.

إن التاريخ لا يقدم إلا أمثلة قليلة العدد لانتصارات الجولة الواحدة، حتى لقضايا نبيلة مثل ثورة 1991". ويتوقع نيكسون أن الزعماء الآخرين في مرحلة ما، قد يستغلون تياراً سياسياً راديكالياً بعد أن يتراجع الشعب عن تأييد المعتدلين.

ويتضح التوجه القومي من التشدد الروسي في قضية القرم وضمها، خاصة أن نسبة كبيرة من سكان القرم هم من أصول روسية.

والمشكلة تكبر لأن المناطق الحدودية فيها سكان معظمهم من أصول روسية، ولهذا فالمشكلة الأوكرانية قابلة للتوسع، مع أن الغرب تقبل ضمنياً الصفعة الروسية واتخذ قرارات بعقوبات اقتصادية غير مؤثرة، وكأنه موافق على أن يهضم الدب الروسي منطقة القرم مقابل ألا يتوسع أكثر جهة الحدود الشرقية لأوكرانيا.

والشعوب دائماً تبحث عن ملهم لها، ويبدو أن الشعب الروسي يجد في بوتين صورة هذا الزعيم الذي يعيد الهيبة لروسيا وسمعتها. كما أن الشعب الروسي، كما يقول نيكسون، بالإضافة إلى تأييده للديمقراطية، لديه رغبة تقليدية لتلقي الأوامر من فوق، وهذا تجسد بشكل واضح في تمسكه ببوتين.

فالرئيس الروسي حتى يتجاوز العقبة الدستورية في عدم التمديد له في الرئاسة أكثر من فترتين، أتي برئيس وزرائه ليكون رئيساً للجمهورية، ومن ثم عاد ورشح نفسه للرئاسة. ورغم بعض المعارضات التي ظهرت، إلا أن النسبة الأكبر من الشعب الروسي صوتت له، وكأن الشعب يبحث عن سلطة عليا قوية، حتى لو لم تكن ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه.

روسيا التي كان ينتظر منها لعب دور عالمي مساند للانفتاح والحريات والعدالة، أعطت رسالة مشوشة للعالم من خلال تعاملها مع الأزمة السورية، وهي ربما تمارس سياسة مختلفة إيماناً بأن لها مصالح تحميها، وهذا من حق كل دولة، ما لم يتعارض مع القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة.

فالنظام السوفييتي السابق له تاريخ طويل من التدخلات في سيادة دول أخرى، كما حدث في المجر عام 1956 وفي وارسو 1967 وكبح ربيع براغ 1968. وتوقع الكثيرون بعد انتهاء الحرب الباردة، أن عصر التدخلات الفردية انتهى، لتأتي حادثة ضم القرم وتبين مدى هشاشة النظام العالمي، متى ما تكلمت القوة وفرضت الأمر الواقع.

روسيا دولة عظمى بإمكاناتها المالية ومواردها الطبيعية ومساحتها الجغرافية، بالإضافة إلى امتلاكها قوة عسكرية هائلة وسلاحاً نووياً. هذه معطيات تفرض حقائق على الأرض، ولكن الأهمية تكمن في الدولة التي تقدم النموذج الإيجابي لتعزيز مفاهيم حقوق الإنسان وحرية الأسواق، ومنح الشعوب حقها في اختيار الأنظمة التي تناسبها.

روسيا في مواقفها السياسية فشلت في أن تقف في المكان الصحيح، وربما ربحت على الأرض، لكنها خسرت احترام كثيرين كانوا يرون في الخيار الروسي أملاً يعيد التوازن للنظام العالمي، ويخرجه من القطب الواحد إلى النظام الدولي متعدد القطبية.

ورغم التذمر من سياسات واشنطن في الكثير من مناطق العالم، إلا أن الخيار الروسي أثبت أنه كان حلماً لم يترجم إلى واقع. فالأحداث التي عصفت بالعالم في العقود الماضية، تعطي دروساً لتجارب التاريخ، يستوعبها من يحلل الواقع ويفهم الماضي. وهؤلاء "الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته".

 

Email