كلمة السر في الربيع العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو حالة دول الربيع العربي مستعصية على الفهم، من تونس إلى مصر، ومن ليبيا إلى اليمن، فهي ثارت على نظم وحكام، ورفعت شعارات براقة عن حقوق الإنسان وحرياته وجودة حياته، ثم طالت بها الدروب المؤدية إلى هذه الأهداف (تونس)، بل إن بعضها ضل الطريق وتخبطت به السبل، وانغرزت أقدامه في بحر من رمال العنف الناعمة، فلم يتحرك من مكانه أصلا (مصر وليبيا).

والسؤال: هل ستظل هذه الدول تلف حول نفسها كما لو أنها في متاهة أم يمكن أن تكسر هذا الطوق وتتحرك إلى الإمام؟

سؤال قد يبدو بسيطا، لكن الإجابة عنه في غاية الصعوبة، لأنه سؤال متعدد الأوجه أو مركب من عناصر كثيرة، يمكن تفكيكها إلى أسئلة أكثر وضوحا، مثل: أين الخطوة الأولى للتقدم والتنمية المستدامة وامتلاك سبل القوة والحضارة؟ هل من الحكومة أم من الشعب؟ بمعنى؛ هل الحكومة هي ماكينة التشغيل أو الطاقة الأساسية التي تنير طريق التقدم، أم المجتمع الذي يبدأ كل فرد فيه بإصلاح نفسه فينصلح حال المجتمع كله؟

هنا تبدو الإجابة سهلة، إذ يمكن استنباطها من التاريخ الإنساني، وقد حددت الإجابة بدقة متناهية، منذ الحضارة المصرية القديمة إلى الحضارة الغربية الحديثة، وهي: الحكومة.

 نعم، الحكومة هي ماكينة التشغيل، والحكومة لا يقصد بها مجرد الأشخاص الذين يتولون السلطة في فترة ما، وإنما يقصد بها أيضا النظام السياسي الذي يدير حياة الناس ومواردهم، وينتج بالضرورة نظما تابعة اقتصادية واجتماعية وثقافية، يتحرك فيها الناس، وهي أيضاً التي توزع عليهم عوائد العمل والثروة ومنتجات الثقافة، فإذا كان النظام السياسي كفؤا وفعالا، تدار حياة الناس بأفضل سبل ممكنة لمواردهم وإمكاناتهم في الأمن القومي والشخصي والتعليم والصحة والتنمية الاقتصادية.. الخ، كما يحدث في الغرب أو في اليابان أو كوريا الجنوبية أو.. الخ.

وبالطبع لم يعرف البشر النظام السياسي "كامل الكفاءة"، لأنه لا يوجد أصلا، فالنظم في حالة تطور دائم كلما ضاقت عن تلبية احتياجات الإنسان المتزايدة، لكن جزءا كبيرا من فاعلية أي نظام هو قدرته علي محاسبة نفسه وتقييم ما يصنعه في حياة الناس، وهذه المحاسبة هي "جهاز التنقية" من عوادم التشغيل: كالفساد واستغلال النفوذ والاستبداد وانتهاك الحقوق والحريات.

وحتى هذه اللحظة لم تقطع دول الربيع العربي شوطا معقولا في هذا الطريق، بل إن بعضها كما قلت قبلا، لم يتحرك خطوة واحدة فيه، وقد تكون قلة الخبرة أو نقص الكوادر السياسية، أو هشاشة البنيات الاجتماعية وتشرذمها، أو مقاومة شبكات المصالح القديمة، وراء هذه الأزمة.

ولكي لا نظل ندور في حلقة مفرغة من التساؤلات المحيرة على طريقة: البيضة أم الفرخة أولا، نقدم تجرية تحول ديمقراطية حدثت في إسبانيا قبل 35 عاما، وكانت إسبانيا وقتها تتشابه مع ظروف وأوضاع دول الربيع العربي الآن، وقد تصلح التجربة الإسبانية لتكون نموذجا يمكن دراسته وفهمه، ثم تعريبه حسب ظروف كل دولة.

وإسبانيا بدأت عملية التحول الديمقراطي في عام 1975، وأخذت منها سبع سنوات كاملة، ووقتها كانت دولة فقيرة، مجرد رقصة فلامنكو ومصارعة ثيران وريال مدريد بطل أوروبا، وديكتاتور اسمه الجنرال فرانكو. وقد نجحت عملية التحول بعد التخلص من فرانكو، لأربعة أسباب كما هي مدونة في أدبيات العلوم السياسية..

الأول: الملك خوان كارلوس، ملك شاب جاء إلى العرش، ولم يفكر في امتيازات أو سلطات واسعة لنفسه أو لعائلته، وإنما شدّه حلم عظيم هو أن يرى إسبانيا مثل كل دول أوروبا الغربية، وأيقن أن تحقيق هذا الحلم مرهون بأن تكون مملكته ديمقراطية، يتمتع مواطنوها بكل الحريات العامة وحقوق الإنسان.

ثانيا: نخبة سياسية معارضة واعية، لها طموح وطني أكبر كثيرا من طموحها الشخصي، سواء على صعيد الأحزاب أو النقابات أو المثقفين، وأدارت عملية التحول دون البحث عن مكاسب أو فوائد تعود عليها أو تجنب الأضرار التي تلحق بالبعض منها من جراء عملية التغيير. باختصار، كانت نخبة وطنية مثل التي قادت دول أوروبا من القرون الوسطى إلى العصر الحديث.

وهذا الوعي الوطني كان حجر الأساس في صناعة مصالحة بين كل الأطياف السياسية المدنية والاعتراف بها، مصالحة لا تستند إلى "تبادل منافع أو مقايضات"، كما يحدث في دول الربيع العربي حاليا. فتمحور الجميع حول الأهداف الوطنية المشتركة، في صياغة عقد اجتماعي جديد ينتشل إسبانيا من القاع، ويدفع بها نحو القمة.

ثالثا: وجود طبقة وسطى عريضة، قادرة على تحمل سلبيات آثار التحول الديمقراطي والخصخصة، دون أن يهددها التضخم بالفقر والمعاناة الشديدة.

رابعا: بيئة حاضنة وهي أوروبا الغربية، فالإسبان كانوا يسعون للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يكن أمامهم سبيل سوى أن يبنوا مؤسسات سياسية واقتصادية على المعايير المطلوبة.

فماذا تملك دول الربيع العربي من هذه العناصر الأربعة؟ وما الذي ينقصها؟ الإجابة تحدد مستقبل كل دولة "ربيعية".

 

Email