لنختبر وطنيتنا قليلاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الوطنية لا تحتاج إلى مختبر علمي لقياسها وإثباتها، ولكنها جزء من الإيمان، تستقر في القلب وتنطق بها الجوارح، لذلك فالمقياس في الوطنية هو دائما في ميدان الأفعال ولا يقتصر على الأقوال. نقول هذا الكلام تذكيرا وتبصيرا لمن نسي بيننا أن مقولة جون كينيدي: "لا تسأل ماذا قدم لك وطنك، بل اسأل ماذا قدمت أنت لوطنك"، تصح علينا جميعا في علاقتنا بوطننا الحبيب دولة الإمارات العربية المتحدة، مثلما تصح في علاقة أي إنسان بوطنه.

دعونا نعترف بحقيقة مؤلمة هنا، وهي أن الكثيرين بيننا يختزلون العلاقة بالوطن، ومن بعدها الوطنية ككل، في جزئية ما يقدمه لنا الوطن، بينما لا يلقى الوطن، نفسه، منهم، أنفسهم، إلا الكلام والأقوال.. وهذا في حد ذاته تحدٍّ في غاية الأهمية لاختبار العلاقة بين الوطن والمواطن ومدى فاعليتها وإنتاجيتها. لا أهدف من هذا الكلام إلى التشكيك في وطنية أحد أو التقليل من مدى إخلاصه لوطنه، لكنني أدعو هنا إلى أن نواجه أنفسنا، أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع ضمائرنا، لكي نعرف بيننا وبين أنفسنا أين نجحنا في علاقتنا بوطننا وأين أخفقنا، وأين نحتاج للتحسن والتطوير، لكي نخدم دولتنا الحبيبة على أكمل وجه.

أول الأسئلة الصعبة التي يحتاج كل واحد فينا أن يسألها لنفسه، سؤال مباشر وعميق: ماذا قدمت للوطن؟ تخيل نفسك وجها لوجه أمام صاحب السمو رئيس الدولة أو أحد إخوانه أصحاب السمو الحكام، وسألك هذا السؤال: ماذا قدمت لدولة الإمارات العربية المتحدة؟ ترى ماذا ستجيب؟ هل لديك إجابة؟ وإذا كانت لديك فهل هي جيدة بما يكفي لتذكرها أمام صاحب السمو؟

دعونا هنا نلاحظ أن ما تقدمه لدولة الإمارات العربية المتحدة ليس الوظيفة الاعتيادية التي تأخذ عليها مرتبك الشهري، ولا الحد الأدنى من التعبير عن العواطف الجياشة تجاه الدولة وقيادتها. نحن هنا نتحدث عن القيمة المضافة التي تجعل الدم يتدفق في شرايينك عطاء وعملاً وانتماء وليس فقط كلاماً، وهذه القيمة المضافة لا تأتي إلا بالعمل الجاد والدؤوب والتوكل.. لا الاتكال، والمبادرة بالفعل لا ردّ الفعل، وإعلاء شأن الصالح العام لا الصالح الشخصي.

لذلك، يصح هنا أن تسأل نفسك السؤال الطبيعي التالي: هل ما تعمله من عمل لوطنك مما كان يحبه زايد ويحبه اليوم من ورثوا أمانة المسؤولية عن زايد وإخوانه من الآباء المؤسسين؟ والمطلوب هنا أن نتذكر جميعا أن الهادي في العمل الوطني، يجب أن يكون بوصلة الوطن لا بوصلة الأهواء الشخصية، وتذكروا هنا أن بوصلة الوطن جزء أساس من بوصلة الإيمان والتقوى. أما الأهواء الشخصية والفئوية، فهي على العكس من ذلك تماما.

ثم ستحتاج مع ذلك كله لكي تختبر نفسك، أن تطرح السؤال التالي على نفسك ومن معك: كم من بني وطني يستفيد مما أنجز؟ وما مساحة تأثير هذا الذي أعمل؟ لا يمكن للعمل الوطني أن يكون مفيدا لك وحدك.. أو لأسرتك الصغيرة وحدها.. فالوطنية إيثار، لا احتكار، ولذلك كلما زاد عدد المستفيدين من مبادرتك وانتشروا على مساحة الوطن كلها، كلما كنت أقرب للوطن.. وكلما قدمت إنجازاتك صورة أفضل عن الإمارات، كنت أقرب للوطن! صحيح أننا لا نقلل هنا من قدر الإنجازات الفردية الصغيرة، لكننا لا نريد أن نحولها إلى ميزات شخصية، بل إن نبقيها في صورتها الزاهية المخلصة أعمالاً وطنية.

لكن هذا لا يجوز أن ينسينا الشق المعنوي في الوطنية، والمركب من ثلاثية الولاء، والحب، والعرفان، لأنه بدونها لا معنى لشيء مما نفعله. فالولاء يؤكد الانتماء، وحب الوطن يرسخ وحدته ويعززها، والعرفان للوطن وللقادة ولإنجازات الآخرين من أبناء الوطن يعني استمرارية المسيرة الوطنية ووحدتها.. وكل ذلك في سياق متجانس لا تناقض فيه بين القول والعمل.

لذلك، ليس من الوطنية في شيء أن تنفق مبالغ طائلة على إعلان تؤكد فيه ولاءك للدولة والقيادة، بينما أنت تمنع تعيين مواطنين في شركاتك أو تغش المواطنين أو.. أو.. إلى ما هنالك من سلوكيات سلبية تسيء لصورة الوطن والمواطن، وتضر بأجندتنا الوطنية الطموحة.

لكنني أرجو أن لا يستنتج أحد من كلامي هذا أنني أنكر وجود أفعال وسلوكيات وطنية لدى مواطني الدولة، بل على العكس من ذلك تماما، إنني أدعو إلى تعظيم وزيادة هذه الأفعال والسلوكيات، وأن تكون مصدرا للفخر والاعتزاز والتعلم.. نعم، التعلم حتى نتعلم من بعضنا البعض محبة وطننا وحدبنا علينا ودأبنا على بعض، مثلما يحنو علينا وطننا ونحنو جميعا بعضنا على بعض. أدعو بصراحة إلى إعلاء قيمة العمل الوطني، فرديا كان أو جماعيا، وما هدفي من هذا الاختبار إلا تحفيز كل واحد فينا، والعبد الفقير لله أول واحد فيكم، إلى بذل المزيد من الجهود وعدم التوقف عند ما قدمناه حتى الآن. كلنا عند التدقيق سنجد أننا قدمنا شيئا أو آخر لوطننا، لكن لا يجوز أن نكتفي أو أن نرضى، وإنما المطلوب أن نواصل العطاء، والمشوار طويل أمامنا.. فهذه الإمارات تستحق أغلى الغلا.

وأخيرا، اسمحوا لي بتذكير بسيط، فهنالك تعريف موجز، ولكنه شامل، يقول: إن الوطنية هي أن تتصرف بإيجابية وتفكر بإيجابية نحو وطنك. وأعتقد أن هذه الكلمات على إيجازها، تختصر الشيء الكثير مما نريد له أن يتحقق في فهمنا لمعنى الوطنية. فهل نحن جاهزون؟ هل تدركون الآن أهمية أن نكون إيجابيين لكي نكون وطنيين؟

Email