منظومة التهميش والتطفيش والتفنيش

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتوقف عقارب الساعة في حياة موظف بسبب ظلم يرتكبه مسؤول في حقه، فلا يستطيع أن يُحرّك ساكناً ولا يستطيع الشكوى أو التظلم، لأنه بذلك قد يتسبب في ضرر أكبر على نفسه. فعندما تتكون عصابات في المؤسسة هدفها تطفيش من لا يوالونهم، وتهميش من يعادونهم، وتفنيش من لا يطيقونهم، وعندما يصبح الموظف المسؤول عن حماية حقوق الموظفين، هو أول من ينتهك حقوقهم ويتلاعب بمستقبلهم المهني، ومن بعدها يرسم تلك الابتسامة الساخرة على وجهه، معلناً انتصاره على كل الأنظمة وقدرته على التلاعب بالقوانين لتلبية مصالح شخصية، فهنا وجب التوقف وتسليط الضوء على هذه السلوكيات، فلعلنا نسهم في جذب انتباه من يستطيع ردعهم وتحسين الأوضاع في مؤسساتنا.

كانت صديقتي تعمل في إحدى المؤسسات الحكومية المحلية في الدولة، وأخبرتني أنها قدمت استقالتها مؤخراً من وظيفة أحبتها جداً وأدتها على أكمل وجه. أبديت استغرابي من قرارها الذي اعتبرته فجائياً وفي غير محله، خاصة أنها كانت جزءاً من الإدارة التنفيذية في قطاع يشح بالنساء، ولكن إجابتها أفحمتني.. قالت لي إنها استدعيت من مسؤول قطاع شؤون الموارد البشرية ذات صباح، ليبلغها بأن أمامها خيارين: أن تقدم استقالتها، أو أن تقوم المؤسسة بتسريحها. وقام بشرح نتيجة القرارين (جزاه الله خيراً)، حين قال إنه يفضل أن تقدم هي استقالتها حتى لا يؤثر ذلك مستقبلاً على توظيفها في مؤسسات أخرى، أما إذا قامت المؤسسة بإنهاء خدماتها فلن يكون ذلك إيجابياً على سيرتها العملية، وقد تجد صعوبة بالغة في الحصول على وظيفة في المستقبل. سألته زميلتي عن السبب وراء رغبة الشركة في إنهاء خدماتها، فأجابها بكل برود، بأنها لم تعد مرغوبة من بعض الأشخاص من ذوي النفوذ.

صديقتي الإماراتية كانت على قدر كبير من السذاجة، فانطلت عليها هذه الخدعة الرخيصة وقامت بتقديم استقالتها فوراً، وسرعان ما ندمت عليها بعدما راجعت محامياً أبلغها أن المؤسسة لا تستطيع تسريحها دون أسباب تخص أداءها أو أمانتها الوظيفية.

انتابني الفضول فسألت أكثر عن هذه المؤسسة، فصدمت لكثرة القصص التي سمعتها والتي سأورد بعضاً منها. شخص إماراتي آخر في المؤسسة ذاتها، كان في منصب مرموق جداً بدرجة مدير تنفيذي لقطاع حيوي، يُشهد له بالأمانة الوظيفية والعمل الجاد وبالأداء الوظيفي الحسن، واجه نفس السيناريو السابق والأسباب وراء قرار التخلص منه لخصت في كونه لم يكن مطواعاً، ولم يستجب لمطالب العصابة في المؤسسة. الموظف الإماراتي على عكس صديقتي، كان واعياً بحقوق الخدمة المدنية ولم يستجب لتهديدات مسؤول قطاع شؤون الموارد البشرية، ولكنه فوجئ بعد عدة أيام بقرار تغيير مسماه الوظيفي عبر بريد إلكتروني أرسل لكافة الموظفين، بقرار إعادة هيكلة جزئية في المؤسسة ليصبح أحد الموظفين الأقل مرتبة منه والناقمين عليه مديره المباشر. هذا التغيير المفاجئ كان له وقع الصدمة البالغة عليه، وكانت له تبعاته من تحطيم نفسي وإهانة علنية.. ولم يستمر الموظف الإماراتي أكثر من أيام حتى قدم استقالته.

الشخص الثالث الذي أود استعراض حالته، حصل على تقييمات سنوية ممتازة من مديره المباشر، فتم استدعاؤه من "البيدق"، عفواً، أقصد مسؤول قطاع شؤون الموارد البشرية، ليواجه سيناريو التفنيش أو الاستقالة. فأجاب بثقة مستعيناً بخبرته في قانون الخدمة المدنية: لا تستطيعون إقالتي أو تسريحي وتقييماتي السنوية تشهد لي، ولا أقبل تهديداتكم. لم يعجب البيدق ما قاله الموظف فتوعده، فأجابه الموظف: "أعلى ما في خيلك اركبه". وبعد عدة أيام تم استدعاء الموظف ثانية ليتم إبلاغه بخيارين لا ثالث لهما: أن يوقع ورقة تغيير مسماه الوظيفي (والتي فيها إنزال مسماه الوظيفي)، أو أن تتم إعادة هيكلة القسم ويتم تحويله من الدوام الإداري ليداوم في العمليات في نظام المناوبة (12 ساعة يومياً، وفي بعض الأحيان تكون في ساعات المساء حتى الصباح الباكر). والنتيجة: قدم المواطن استقالته.

قصص مأساوية كثيرة في بعض مؤسساتنا.. فعندما يصبح مسؤول قطاع شؤون الموارد البشرية بيدقاً في يد بعض الأشخاص في المؤسسة ليلبي حاجات شخصية في نفوسهم، وليس لتنفيذ رؤية وهدف المؤسسة، تقع المصائب. وعندما يضرب بالتقييمات السنوية عرض الحائط وتصبح مجرد ورقة يبلها الموظف ويشرب ماءها، لأنها بلا قيمة تذكر، يجد المواطن نفسه منبوذاً في وطنه ولا حياة لمن تنادي!

تستمر ممارسات مسؤول قطاع شؤون الموارد البشرية بلا محاسبة، فتصبح عادة ويعتبر نفسه إلهاً في المؤسسة، وفي الواقع أليس دور هذا المسؤول أن يكون الملاذ المحافظ على حقوق الموظفين وخاصة المواطنين منهم؟ كيف سنصل إلى خططنا المستقبلية ونحن نسمح لمثل هؤلاء بقيادة قطاعات مهمة في مؤسساتنا؟ كيف سنصل للرؤية التي نتطلع إليها بتوظيف الإماراتيين، ونحن نتبع أردى الأساليب في تهميشهم وتطفيشهم في بيئة العمل بغية تفنيشهم، وليس لسبب إلا لأننا لا نستسيغهم أو أنهم لا يلبون مطالبنا الشخصية؟!

كم أتمنى من المسؤولين والمعنيين أن يقوموا بإنشاء استبيان لتقييم مسؤول قطاع شؤون الموارد البشرية أو العاملين في هذا القطاع، خاصة أننا جعلنا من المواطنين الأولوية والتوطين الهدف وزيادة نسبهم في سوق العمل هي الغاية. لم لا يقوم الموظفون في كل مؤسسة حكومية وشبه حكومية بتقييم هذا المسؤول؟ فقد لا تكون المشكلة في القوانين الموضوعة للتوطين، بل في من ينفذ هذه القوانين. غالبية الأفكار الرائعة التي تفشل، يكون سببها سوء التنفيذ، وفي هذه الحالة قد يكون سوء التنفيذ من أشخاص يعادون إخوتهم المواطنين ويمارسون العنصرية ضدهم.

قال مؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله وطيب ثراه: "إن الوطن ينتظر منا الكثير والشعب يتطلع إلى أعمالنا، ونحن جميعاً شركاء في المسؤولية". فيا أيها المسؤول لقد استؤمنت على إخوتك المواطنين، ومن الأمانة أن تحفظ حقهم الوظيفي وتقوم بتهيئتهم وتطويرهم وتمكينهم، وتذكر "لو دامت لغيرك ما آلت إليك".

Email