المكتبات في العالم الإسلامي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإسلام دين سماوي، حرص منذ بزوغه الأول على الاهتمام بالكتب، وبالكلمة المكتوبة بصفة عامة. وعلى المرء فحسب أن يتأمل المكانة التي حظي بها القرآن الكريم في الإسلام، لكي يدرك مدى عمق هذه الحقيقة.

ودعنا لا نذهب بعيداً، فالأذان الذي ترتفع به الأصوات الندية في كل أرجاء العالم الإسلامي، وخارجه خمس مرات في اليوم والليلة، مأخوذ ومستلهم من القرآن الكريم،لكن إحدى المشكلات التي واجهها المسلمون في التعامل مع الكتب، هي أنها تطبع على الورق، وتمر بمرحلة الطباعة، وكلا الأمرين مكلف، كما نعلم.

ومن هنا فليس غريباً أن نعرف أنه في المتوسط، لا يمتلك إلا أفراد قليلون في العالم العربي الكثير من الكتب، بما في ذلك الكتب بالغة الأهمية، وفي بعض الأحيان قد يمتد هذا في الأوساط الفقيرة إلى القرآن الكريم نفسه، وإلى كتب الأحاديث الشريفة أيضاً.

هكذا فليس من الغريب أن الدولة والأشخاص الأثرياء قد أنفقوا أموالاً طائلة على إنشاء وإدارة مكتبات عامة، يمكن أن تكون الكتب الموجودة فيها متاحة للأفراد الذين قد يحتاجون إلى كتب معينة لمدة طويلة، وبالتالي فإنهم يتمكنون هنا من التعامل مع أسئلة وموضوعات وأبحاث ينشدون الإجابات المتعلقة بها، التي لا يجدون ردوداً على الأسئلة المطروحة بشأنها في الكتب، التي يقتنونها.

وقد اقتضت المكتبات العامة وجود أعداد من العاملين فيها، يتولون المسؤولية عن تسجيل الكتب المستعارة، والأشخاص الذين استعاروها، واليوم الذي تمت استعارتها فيه من المكتبة.

واعتباراً من القرن التاسع الميلادي، كانت هناك إشارات عديدة إلى المكتبات في العالم العربي، وذلك على الرغم من وجود إشارات أيضاً إلى أن بعض المكتبات تعرضت للتدمير خلال الحروب العديدة، التي دارت رحاها في ذلك الوقت.

ونحن جميعاً نعلم أن أول مكتبة عظيمة في العالم الإسلامي قد أنشئت في بغداد، إما على يد الخليفة هارون الرشيد أو ابنه المأمون، في صدر القرن التاسع. وقد شابهت إلى حد كبير في أنشطتها جامعة حديثة، وارتبطت بدار العلم، وكانت مفتوحة لكل من هو مؤهل لاستخدامها.

وأنشئت مكتبات مماثلة في سوريا ومصر وفي إيران، ويقدم المقريزي قائمة مثيرة للاهتمام بالتكاليف الجارية بالنسبة لهذه المكتبات، التي تشمل، حسبما أورد في قائمته، الورق للوراقين، ومبالغ من المال للحبر والأقلام، وقدر إجمالي ميزانية الصيانة بنحو 257 ديناراً سنوياً.

وبالمناسبة، لا بد لنا من التشديد على أن النساء لم يكن مستبعدات من مثل هذا العمل، ويحدثنا المؤرخ وكاتب السير ابن خلكان، بأن سيدة زنجية تدعى "توفيق" كانت المسؤولة عن إعارة الكتب في مكتبة بغداد للوراقين البارعين.

وكانت بلاد الأندلس غنية بالكتب والمكتبات بصفة خاصة، ومن بين كل المدن في الأندلس، فإن قرطبة قد اشتهرت بأنها المدينة الأكثر اهتماماً بالكتب. وينقل عن ابن سينا قوله: لو أن عالماً توفاه الله في إشبيلية، واتضح أنه من المطلوب بيع كتبه، فإنها تحمل إلى قرطبة، حيث تجلب أفضل الأسعار.

وكانت هناك على الدوام مشكلة، تتعلق بالطريقة التي يمكن بها استعارة الكتب، فقد تبين مع مضي الوقت أن من الحتمي أن تجد المكتبات أنها تعير الكتب، ثم لا تعاد هذه الكتب إليها، فكيف يمكن التغلب على هذا الخطر؟

كان من الطبيعي أن توجد المشكلة نفسها في أماكن أخرى من العالم، ففي الشرق والغرب على السواء، سعت مكتبات عديدة لحل هذه المشكلة بطرق أخرى غير مجرد التعهد.

وقد حلت بعض المكتبات هذه المشكلة باللجوء إلى الطريقة البسيطة والمباشرة، وهي رفض إعارة أي من كتبها. وكتب المؤرخ ياقوت في القرن الثالث عشر يقول عن مكتبة في مرو: لم تخل داري قط من 200 كتاب أو أكثر استعرتها.

وقد كتب أبو حيان التوحيدي مفسراً عدم قيامه بشراء كتب قط، يقول: أياً كان الكتاب الذي أريده، فقد كان بوسعي أن أستعيره من أي مكتبة، بينما كنت إذا أردت اقتراض مال لشراء كتب فإنني لا أجد أحداً يقرضني إياه.

وقد تكون المكتبات من أنواع مختلفة، وتحكمها قواعد وضوابط متباينة، وقد كان المؤرخ الكبير رشيد الدين القاطن في إحدى ضواحي تبريز، معنياً بالحفاظ على كتبه التي استنسخ نسخاً منها بالعربية والفارسية والصينية، وفي كل عام كانت مجموعتان كاملتان من نسخه تستنسخ وتوضع في المكتبات والمساجد الكبرى.

وقد شهد الرجل الكثير من القتال والمعارك، التي أسفرت عن دمار الكتب وأماكن تلقي العلم.

ومن الطبيعي أن بعض المكتبات قدر لها أن تنجو من هذا المصير، وبصفة خاصة المكتبات الموجودة في مكة، والمدينة، ومكتبة جامعة الأزهر في القاهرة.

وقد أنشئت مكتبات جديدة في البلاد، التي انتشر فيها الإسلام، ومنها مثلاً تركيا وبلاد أخرى، وهذه العملية لا تزال مستمرة حتى اليوم. ونلاحظ طبع الكتب في جامعات دول مثل السعودية ودول الخليج وباكستان وإندونيسيا وماليزيا، لتوزيعها على المسلمين، ومن هداهم الله إلى الدين الحنيف حديثاً.

ومن المؤسف حقاً أنه حتى في زماننا هذا، لا تزال تصلنا أخبار دمار مكتبات قديمة، كما حدث في تيمبكتو في مالي، التي حفظت فيها ألوف من أقدم المخطوطات العربية، وهي مخطوطات تعرضت للتدمير في القتال، الذي دار هناك مؤخراً، ومن المؤسف حقاً أنه لا يمكن إحلال غيرها مكانها.

ومن المؤلم أيضاً أنه قبل أسابيع قليلة، صدم العالم بالأخبار التي تتحدث عن احتراق إحدى أقدم المكتبات، وأهمها في العالم الإسلامي، التي كانت تحوي 70 ألف مجلد، أحرقت عن آخرها في مدينة طرابلس بشمالي لبنان، في الاقتتال الذي دار هناك، وهذا كله يشكل خسارة للإنسانية جمعاء، لا يمكن تعويضها.

Email