العثمنة الجديدة والصفويّة العنيدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كتب الصحافي الشاب، إيراني الأصل، ديفيد شريعتمداري مقالاً في صحيفة الغارديان (الأحد 6 أكتوبر 2013) جاء فيه: "إن الاضطرابات في الشرق الأوسط تؤجج الحنين إلى العثمانية.

وإن القتلى يتساقطون على عزف هذه المقطوعة الرومانسيّة التي تصفّق سياسياً لإحياء تلك الامبراطوريّة". من يقرأ المقال ربّما يتعاطف معه، ولكن ثمّة أفكار خاطئة ومضللّة فصاحبه ينطلق من زاوية نظر خفيّة وخطيرة وحاقدة، فهو يسكت على حقائق مفضوحة، ويتراقص أمام مشهد دموي عربي لم يكن كمثله أبداً في أيّ يوم من الأيام. 

تكمن خطورة مقاله في تضليل الرأي العام على امتداد العالم. إننا نعترف أن أردوغان يمارس سياسة حزبيّة دعيت بـ "العثمنة الجديدة"، وقد انتقدناها نقداً هادئاً في كتابنا الجديد "العثمنة الجديدة: البدائل الصعبة"، إذ لا يمكن أبداً نقل التوجّه التركي المعاصر إلى العرب بالذات وجعل المنطقة العربيّة، وخصوصاً العراق وبلاد الشام حدائق خلفيّة لجمهوريته التركيّة، فهو لا يهتم لا باليمن جنوباً ولا بالجزائر غرباً، فهو يعمل من أجل مصالحه الاقتصاديّة..

وأعلم أن العرب وشركاءهم لا يقبلون أبداً تسويق أيّة بضاعة إيديولوجيّة، فلا أحد منهم سيستمع إلى معزوفة عثمنته الجديدة دينيّة كانت أم تاريخيّة. ولا يمكن للعثمانيين الجدد أن يستأصلوا الأطفال من أهلهم ليشكلّوا منهم جيوشهم الانكشارية ويوسّعوا سلطنتهم من بابهم العالي على حد زعم شريعتمداري.

المشكلات المستعصيّة عندنا نحن العرب ساهمت في صنعها قوى امبراطورية دولية استعمارية، فضلاً عن قوى استبداديّة إقليميّة كالعثمانيين والصفويين القدماء، واليوم إذا كانت تركيا تعلن عن عثمنة جديدة، فإن إيران قد سبقتها بممارستها صفويّة عنيدة. وإيران كانت ولم تزل تسّوق بضاعة إيديولوجية كاسدة، وتزرع منذ ثلاثين سنة مشكلات لا حصر لها.

لقد كانت تركيا مغلقة أبوابها أمام العالم الإسلامي ومنفتحة على أوروبا منذ أيام أتاتورك، في حين جعلت إيران من نفسها شرطيّاً عنصرياً في الخليج العربي، واحتلت جزراً ومدناً وأنهراً عربيّة، وأشعلت التمردّات والمؤامرات منذ أيام الشاه، وبعد سقوطه بدأ النظام الإيراني الثيوقراطي بنشر مشروع طائفي في أوطاننا العربية منذ أكثر من ثلاثين سنة. هل يجيب شريعتمداري: تحت أي غطاء يحدث ذلك؟

إن الانشغال بمسلسل تركي أو التمتع بخيال تاريخي عن الماضي لا يفكك الأوطان، علماً أن العرب ليس لهم حنين إلى الماضي العثماني، وليس كلهم يتابعون مسلسلات تركيا وأفلامها، ولكنهم يعلمون علم اليقين انهم كانوا وقوداً لنار صراع محتدم وبشع بين العثمانيين والصفويين لأزمنة مضت.

ويعلمون جيداً أنهم كانوا ضحايا إمبراطوريتين قاسيتين لم تحترما إرادة تلك المجتمعات. لا تنسى يا شريعتمداري، تنصحنا ألّا يكون لنا حنين إلى الماضي وأنت في مقدّمة البشر ممّن يحنوّن إلى ماضيهم وتريدون أوطاننا أن تكون توابع لكم وفي رعايتكم.

والعالم كلّه يعرف أنّ الصفويين الجدد يخترقون أوطاننا، بل كان نشوؤهم سبباً في ولادة رد فعل تمثل بحراك اسمه "العثمانيون الجدد". واعلم أن حنين الإنسان الحقيقي إلى ماضيه لا إلى ماضي غيره.

وأتمنى عليك أن تقرأ تاريخك وحاضرك لتعلم كيف عامل الصفويون والنادريون والزنديون والقاجاريون والبهلويون شعوب إيران وأقليّاتها من عرب وبلوش وكرد وأرمن وقفقاس واذريين قبل أن تذّكر العرب بالنير التركي الذي يعلمونه جيداً، وهم يستذكرون أعواد المشانق التي نصبت لشبابهم في ساحات دمشق وبيروت.

لقد تقبّلت مجتمعاتنا كل التحديات الإقليمية من هذا أو ذاك، وهي تعرف حق المعرفة أصدقاءها من خصومها حتّى في أزمان الدكتاتوريات. لا توظّف التاريخ لأغراضك وتسويق بضاعتك، فإن كانت بضاعة العثمنة الجديدة سحر هراء، فبضاعة الصفوية العنيدة سموم قاتلة، وإن كانت لكل من الطرفين مرجعيّة مركزيّة ينطلق منها، فلا للعرب ولا لغيرهم في المنطقة أيّة "مرجعيّة" يستندون إليها..

كما وأنهّم لا يتدخّلون بشؤون تركيا وإيران في حين يتدخل الطرفان في شؤون العرب تدّخلات سافرة، وأسألك: كيف كانت الامبراطورّية الصفوّية نموذجاً واقعياً، وكيف اقتصرت على منطقة جغرافية وعرقية؟ كم من القوميات والأعراق حكمتهم وبطشت بهم الصفوّية العنيدة؟ إن المشروعين العثماني والصفوي قد تجدّدا اليوم على أسس سخيفة وعلى حساب انهيار المشروع العربي وتمزّقه وتشوهّه..

وإذا كان العرب قد نخرتهم خلافات حكامهم السياسيّة ومؤدلجاتهم الحزبيّة والمذهبّية، ولكنهم يناضلون في خضم الفوضى الخلاقة من أجل حريتهم وكرامتهم ومستقبلهم، وأخيراً، ليكن شريعتمداري عاقلاً، فيبحث بعمق وإنصاف عمّن أجّج الصراع الطائفي في مجتمعاتنا العربيّة بصورته البشعة في الثلاثين سنة الأخيرة، فأيّة جاذبيّة يتجمّل بها هذا أو ذاك على حساب قضايانا المصيرية؟ لقد مرّت مائة سنة كانت كافية لتتّمزق المنطقة شرّ ممّزق؟ وسيطول الزمن حتى تنجلي الحقائق فتبرز الشمس من جديد بحول الله.

 

Email