محمد مرسي وقضية عبد القادر حلمي (1/2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عددها الصادر يوم 11 يونيو 1989، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تفاصيل الاتفاق الذي تم بين الباحث المصري عبد القادر حلمي، والادعاء العام في مدينة ساكرامنتو عاصمة ولاية كاليفورنيا، والذي يعترف فيه أمام القاضي بول راميريز بالتهمة الرئيسية الموجهة له، وهي تهريب مواد عسكرية دون تصريح، مقابل إسقاط عدد من التهم الفرعية، وحكم عليه بالسجن والغرامة والإقامة الجبرية بعد السجن.

كانت تلك إحدى الحلقات الأخيرة في محاكمة عبد القادر حلمي، الأكاديمي والمهندس والعالم المصري، ولكن لكي نعرف أهمية ما كان يقوم به هذا الرجل بالنسبة للقدرات الدفاعية المصرية، دعونا نقرأ ما ورد في تقرير أعدته وكالة استخبارات الدفاع "دي آي ايه" للكونغرس الأميركي عام 1992 عن هذه القضية.

حيث يقول التقرير إن المواد والتكنولوجيات التي كانت بحوزة عبد القادر بهدف "التهريب" إلى مصر، كافية لإنتاج صواريخ بالستية متوسطة المدى عالية التدمير، يمكنها أن تحمل رؤوسا نووية وحتى كيماوية، وتتجاوز منظومات صواريخ الباتريوت بكل سهولة.

تخرج عبد القادر حلمي في الكلية الفنية العسكرية عام 1970 قسم الهندسة الكيميائية، ثم ابتعث إلى الأكاديمية العسكرية السوفييتية ليحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في تطوير أنظمة الدفع الصاروخي ومكونات الصواريخ الباليستية، وعاد إلى مصر عام 1975. وفي تلك الفترة كانت مصر بدأت برنامجا طموحا لتطوير تقنياتها في الإنتاج الحربي وإمكانيات الردع الصاروخي.

لذلك سعت المخابرات الحربية التي كان يقودها اللواء عبد الحليم أبو غزالة (المشير فيما بعد) إلى زرع عالم مصري في محيط الصناعات الدفاعية الأميركية عالية السرية، وهو أمر كان سهلا آنذاك نظرا لرغبة الأميركان في الاستفادة من التأهيل الأكاديمي لعبد القادر حلمي، باعتباره خريج الأكاديمية العسكرية السوفييتية في نفس المجال. وبعد إعفائه من الخدمة العسكرية، حصل حلمي على عمل كخبير صواريخ في كندا اواخر السبعينات..

وبعد ذلك انتقل إلى إحدى الشركات الدفاعية الأميركية، وهي شركة تيليداين المتخصصة في إنتاج أنظمة الدفع الصاروخي، حيث عمل فيها على منظومات الدفع الصاروخي لمكوك الفضاء، وعلى بعض أنماط القنابل الارتجاجية المتقدمة.

مع بداية الثمانينات ظهر على خارطة الطموحات المصرية مشروع الكوندور، وهو مدفع عملاق لإطلاق صواريخ بالستية متوسطة المدى، بالتعاون مع العراق والأرجنتين، ولعب عبد القادر دورا مهما في توفير بعض البحوث السرية والبرمجيات الخاصة بالمشروع، من خلال موقعه في الولايات المتحدة، قبل أن ينتقل للمرحلة التالية التي تمثلت في تزويد المشروع بمادة الكربون الأسود، التي تحمي الصاروخ من اكتشاف الرادارات له، إضافة لزيادة سرعته.

لاحظوا هنا أن البرنامج كان يهدف إلى تزويد الجيشين المصري والعراقي بقدرات ردع صاروخية متقدمة، تواجه الترسانة الضخمة للعدوين الأبرز إسرائيل وإيران! ولكن تذكروا أيضا من كان الحليف التنظيمي الأبرز لإيران في المنطقة؟ وما هو التنظيم الأكثر خدمة للأهداف الإسرائيلية؟

ويبدو أن البرنامج كان يتجاوز المدفع العملاق "بابل" إلى شيء أكبر، ففي 7 فبراير 2011، أي في غمرة أحداث ثورة 25 يناير، بثت شبكة إن بي سي الأميركية تقريرا لروبرت ويندروم، معد التحقيقات الخاصة في الشبكة، عن ترسانة الأسلحة المصرية نقل فيه عن عبد القادر حلمي قبل عودته إلى مصر، أن ذلك البرنامج كان في الواقع جزءا من مخطط أكبر يهدف لبناء القدرات النووية الرادعة للجيش المصري.

كان الإخوان في تلك الفترة يقفون موقفا معاديا للعراق ومتحالفا مع ما يسمى "الثورة الإسلامية في إيران"، محاولين الترويج لفكرة أن حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران كانت مؤامرة على الإسلام، ولكنهم في نفس الوقت كانوا متورطين حتى آذانهم مع مخططات المخابرات الأميركية لإشعال المنطقة، من خلال لعبهم دور الأداة التنفيذية والترويجية الأولى لتصفية الحسابات الأميركية الروسية في أفغانستان.

ويبدو أن هذا التحالف الصامت سمح لهم بممارسة بعض من أفظع الخيانات وأبشعها تجاه أوطانهم وشعوبهم، كما يتضح من دورهم في هذه القضية الذي لم يكن اللاعب الأبرز فيها سوى الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي، خاصة وأن قيادة الإخوان وقتها (النصف الأول من الثمانينات) كانت تريد تصفية ثأر كبير مع الرئيس المصري الجديد وقتها حسني مبارك وبعض القيادات الأمنية والعسكرية، لاستكمال ما بدأه خالد الإسلامبولي يوم 6 أكتوبر 1981 حين اغتال الرئيس السادات.

ما علاقة هذا الموضوع بمحمد مرسي؟ في العام 1975 التحق محمد مرسي بالقوات المسلحة المصرية لأداء الخدمة الإلزامية، وباعتباره حاصلا على بكالوريوس الهندسة الكيميائية، تم فرزه إلى سلاح الحرب الكيماوية في نفس السنة التي عاد فيها الدكتور عبد القادر حلمي من الأكاديمية العسكرية السوفييتية، والتحق بالجيش المصري في مجال الإنتاج الحربي مستفيدا من شهادته في الهندسة الكيميائية. هناك كانت التقاطعات الأولى لعلاقة الرجلين محمد مرسي وعبد القادر حلمي، ثم ما لبثت طرقهما أن افترقت.

فانخرط حلمي في أنشطة عسكرية أكثر تخصصا، بالتنسيق مع المخابرات الحربية كما أسلفنا، فيما أنهى محمد مرسي خدمته العسكرية واتجه لاستكمال الماجستير في هندسة المواد في القاهرة عام 1978، وهي الفترة التي انضم فيها للإخوان المسلمين، ثم حصل على منحة لإكمال الدكتوراه في نفس التخصص في الجامعات الأميركية.

ويروي لواء المخابرات الحربية المتقاعد أحمد زاهر، أن حلمي في تلك الفترة كان قد وصل إلى ناسا، حيث مختبراتها العلمية الواسعة وإمكانياتها الثمينة، وما لبث أن التقى طالب الدكتوراه المصري الجديد، صديقه القديم محمد مرسي. لم يعلم حلمي عن انتماء مرسي للإخوان، لذلك قيمه باعتباره عسكريا مصريا سابقا سيمثل.

إضافة نوعية لجهوده في خدمة بلاده. لذلك سعى بكل ما أوتي من قوة، لمساعدته في إعداد رسالة الدكتوراه عن مواد حماية محركات المركبات الفضائية، وهو مجال لم يكن ممكنا البحث فيه خارج ناسا، أي جنبا إلى جنب مع حلمي.

بقي مرسي في كاليفورنيا بعد الدكتوراه، حيث عمل في جامعة نورث ريدج وأصبح يقدم استشارات لوكالة ناسا من موضوعات رسالة الدكتوراه. ومع تطور الصداقة بينه وبين حلمي، تمكن مرسي من معرفة بعض الخيوط عن الشبكة التي تضم حلمي والمهام التي يقوم بها، وليس واضحا بعد إذا كان تجنيد مرسي لصالح الاستخبارات الأميركية تم مسبقا بهدف مراقبة حلمي، أم أن عضوية مرسي في حلقة الإخوان النشطة في كاليفورنيا جعلته يتطوع لإبلاغ الأميركان، سواء بهدف الانتقام من نظام مبارك أو الدفاع عن ملالي إيران.

لكن الثابت هنا أنه تم إبلاغ الأميركان بما لديه من معلومات عن حلمي، علما بأن بعض المؤشرات تضع احتمال تجنيده من قبل الموساد الإسرائيلي، وأن هؤلاء هم من أبلغوا الأميركان بالمعلومات التي حصلوا عليها من مرسي. ولعل هذا ما يفسر الاتهام الذي وجهه علنا عبد الستار المليجي القيادي السابق في الإخوان، لمحمد مرسي من أنه "عميل مزدوج" لكل من أميركا وإسرائيل.

كان ذلك في العام 1985، لكن الأميركان لم يتصرفوا على الفور لأكثر من سبب، فقد أرادوا معرفة حجم شبكة حلمي وما الذي تسعى إليه فعلا في أميركا، وثانيا أرادوا أن يعرفوا إلى أين وصل المشروع الفعلي في كل من القاهرة وبغداد. واستنادا إلى كون مرسي قد خدم في سلاح الحرب الكيماوية، تم هنا تبادل للأدوار.. (يتبع غدا 2/2)

 

Email