تثقيف وتطوير الشركات ورواد الأعمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

معظم الابتكارات في الدول المبتكرة تأتي من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ولكن واقع الحال هو بخلاف ذلك في منطقتنا العربية، ودول مجلس التعاون الخليجي بوجه خاص، حيث لا تزال هذه المؤسسات تعاني من خصاصٍ حاد في الخبرة والكفاءات البشرية. ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تسهم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بنسبة 33 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وتوظف 25 في المئة من قوتها العاملة المحلية (من السعوديين)، كما جاء في تقرير شركة كابيتاس غروب الدولية (CGI) لعام 2011. وتسهم نفس هذه الشركات الصغيرة والمتوسطة في دولة الإمارات العربية المتحدة، بنسبة ثلاثين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتوظف 86 في المئة من إجمالي القوة العاملة (تقريباً جميعهم أجانب، إذ إن نسبة العمالة الوطنية لا تتجاوز 1 % من مجموع العمالة الموجودة في هذه المؤسسات).

ويشير تقرير كابيتاس غروب الدولية إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تسهم بنسبة 35 ٪ إلى 45 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وحوالي 40 ٪ إلى 60 ٪ من إجمالي العمالة العالمي. وفي القطاع الخاص الأميركي توظف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة 52 ٪ من القوى العاملة، كما تسهم بنسبة 64 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الإسباني و44 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في النمسا.

بمقارنة بسيطة، سنكتشف أن الشركات الصغيرة والمتوسطة في دول مجلس التعاون الخليجي غير فعالة نسبياً، حيث حصتها من العمالة أكبر بكثير من حصتها من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقاً لتقرير البنك الأهلي التجاري، فإن معظم الشركات في دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، تعاني من تدني الكفاءة وانخفاض النمو وقلة الابتكار وضعف الإدارة.

من نافلة القول إن هذه الصفات لا تساعد على خلق اقتصاد قوي ومبتكر. وهناك كثير من الدراسات التي تقرن بين مستوى النمو والابتكار في اقتصاد ما، ومستوى تثقيف وتطوير وفعالية رواد الأعمال وأصحاب الأعمال فيه. لذلك ينبغي على حكومات دول مجلس التعاون ومؤسساته الداعمة الانتباه إلى ثلاثة عوامل هامة وأخذها على محمل الجد، لكي نضمن نمو واستمرارية شركاتنا التجارية، وهذه العوامل هي:

1ـ تعليم ونشر ثقافة روح المبادرة لإنشاء المشاريع.

2ـ تدريب وتطوير رواد وأصحاب الأعمال والعاملين.

3ـ بناء نظام حوكمة للشركات الكبرى، بما يضمن تطويرها واستمراريتها.

بالنسبة للعامل الأول، سنجد أن التعليم الجامعي الخاص بخلق وتطوير ريادة الأعمال وتكوين وإدارة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في دول مجلس التعاون الخليجي، محدود للغاية. ولا تقدم معظم الجامعات في برامجها أكثر من مساق واحد، يختص في المجال المذكور.

ربما لهذا السبب نجد خريجينا يفتقرون إلى المعرفة الكاملة في مجال الإبداع والابتكار. وحتى في حال رغب هؤلاء الخريجون في تكملة دراساتهم العليا في هذا المجال، فإن البرامج المتخصصة لا تكاد توجد، وإن وُجدت فبشكل محدود، وبمساهمات ضعيفة في الغالب. أما مساهمات الشركات الكبرى والمؤسسات البحثية في تطوير هذا المجال فهي لا تكاد تذكر.

ويرى كثير من الباحثين أن المعاهد والكليات والجامعات، ولا سيما تلك التي لديها تخصصات في إدارة الأعمال، لا يمكنها (ولا ينبغي لها) تجاهل تعليم ريادة الأعمال والابتكار في القرن الحادي والعشرين، ويؤكدون أن كليات إدارة الأعمال على الصعيد العالمي، بحاجة إلى إيلاء اهتمام جدي بهذا المجال. وبما أن دول مجلس التعاون الخليجي تفتقر إلى نظام تعليم متكامل في هذا المجال، وبنسبة تفوق بكثير تلك الدول التي لديها باع طويل في الابتكار، فيجب عليها أن تكون أكثر تفانياً وأكثر جدية لخلق نظام التعليم المطلوب.

والمطلوب ـ باعتقادي ـ هو بذل جهد متكامل ومترابط تشارك به الحكومات من جهة، من خلال مبادراتها وبرامجها التعليمية، كما تشارك به المؤسسات التعليمية عبر مناهجها الدراسية وبحوثها، وهناك ـ من جهة ثالثة ـ مجتمع الأعمال الذي يسهم بدوره من خلال خلق الفرص العملية والتدريبية.

إن السوق العالمية وأسواق دول مجلس التعاون الخليجي، تتقاسم نفس التحدي المتمثل في العامل الثاني، وهو تدريب وتطوير رواد وأصحاب الأعمال والعاملين في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. في الواقع، هناك فرقٌ بين إدارة المؤسسات الصغيرة وإدارة الشركات الكبرى.

فأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومديروها، على سبيل المثال، لا يتحمسون في الغالب لإنفاق أموال كثيرة على التطوير الذاتي وتدريب الموارد البشرية. وذلك لأن هذا الصنف من أصحاب الأعمال والمديرين الذين يؤمنون بضرورة التدريب والتطوير، هم في حكم النادر، وهو ما ينعكس بدوره في نقص القيادات والمرؤوسين المدربين تدريباً جيداً.

وربما لهذا السبب نجد أن أغلبية شركاتنا الصغيرة توظف عمالة شبه ماهرة أو غير ماهرة، بأجور ومزايا متدنية. بناءً على هذه المعطيات، يمكنني التأكيد ـ كما أكد باحثون كُثر ـ على أهمية التدريب والتطوير في المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهو ما سوف يؤدي بالنتيجة إلى زيادة وتقوية كفاءة الموارد البشرية، وينعكس إيجاباً على دورها في الابتكار. أخيراً.

وفي الوقت الذي تنمو فيه الشركات الصغيرة والمتوسطة لترقى إلى مصافّ الكبيرة، ولكي تحافظ على تطورها وقدراتها التنافسية واستمراريتها، يجب أن تدار هذه الشركات بطريقة أكثر احترافية، كما يصبح من الضروري تبنّيها مفهوم حوكمة الشركات.

ولعلّ المجال الأمثل الذي يمكن تطبيق هذا المفهوم عليه جدياً في دول مجلس التعاون، هو الشركات العائلية الكبيرة مكتملة النمو. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 90 في المئة من جميع الأنشطة التجارية داخل دول مجلس التعاون الخليجي، تسيطر عليها شركات عائلية، ويبلغ عدد الشركات العائلية الكبيرة أكثر من 5000 شركة.

وتعتمد مقدرة هذه الشركات على الاستمرار على مدى حسن إدارتها وتوخّي الحكمة في تسيير شؤونها، قبل أو بعد وفاة مؤسسها. هذه الشركات هي مثال ممتاز أمام الجيل الجديد من رواد الأعمال، للتعلم والتعرف إلى الكيفية التي يمكن بها للمشاريع الصغيرة والمتوسطة أن تنمو وتصبح لاعباً رئيساً في السوق.

وتمتاز الشركات العائلية في الخليج بقوة نفوذها في السوق وصلابة قاعدتها المالية، ما يرشحها للعب دور قيادي في مجال تطوير الأعمال والابتكار. كثير من هذه الشركات أقدمت على تطبيق مفهوم الإدارة المهنية أو الاحترفية في عملياتها الإدارية، ولكن عدداً قليلاً جداً اعتمد ممارسات حوكمة الشركات. ففي خطوة غير مسبوقة، قامت شركة ماجد الفطيم القابضة،.

وهي واحدة من الشركات العائلية الرائدة في مجلس التعاون الخليجي، ومقرها في دولة الإمارات، باعتماد هذه الممارسات. وتدير الشركة خمسة مجالس إدارة مهنية مستقلة ومنفصلة، وهي مقسمة إلى أربعة كيانات مستقلة ومنفصلة أيضاً، مع مجلس إدارة من الشركة القابضة. يدار كل كيان من قبل مجلس إدارة مستقل وأعضاء مستقلين.

والهدف من ذلك هو ضمان النمو والتطور والاستمرارية في الشركة. ينبغي على الشركات العائلية في الخليج أن تتبنى نفس الاتجاه الذي سلكه ماجد الفطيم، حتى نستطيع في المستقبل أن نحدّ من ظاهرة عامة عالمية، مفادها أن 30 في المئة فقط من الشركات العائلية يمكنها الصمود وتسليم الراية إلى الجيل الثاني، بينما يبقى أقل من ستة في المئة منها إلى ما بعد الجيل الثالث. أطال الله بأعمار مؤسسي هذه الشركات، ووفق أبناءهم في قيادتها.

 

Email