الابتكار في ثقافة الامتثال (3 ـ 3)

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما نشرت جريدة "يالاندز بوستن" الدنماركية، في سنة 2005، رسوماً كرتونية للرسول، صلى الله عليه وسلم، اتخذت ردة فعل العرب طريقتين: انبنت أولاهما على العاطفة والتطرف والخوف، بينما قامت الثانية على الموضوعية وتوخّي تحقيق أهداف محددة.

ردة الفعل الأولى عبرت عن نفسها في شكل تظاهر عشوائي وتخريب وتهديد، ما أتاح للآخرين أن يصنفونا ـ وبلا تردد ـ قوماً رجعيين، غير منظمين ولا نعرف ما الذي نريده. ولم يقتصر الأمر على هذا، وإنما تنصل من هذه الطريقة معظم أفراد المجتمع العربي والحكومات العربية.

أما ردة الفعل الثانية فكانت مبنية على إظهار العرب ككتلة اقتصادية وذات تأثيرٍ يُحسب له ألف حساب على مستوى الاقتصاد العالمي. ليس ذاك فحسب، وإنما سعت أيضاً باتجاه تحقيق أهداف ضد أولئك الذين أساؤوا للرسول، فكان القرار بمقاطعة البضائع الدنماركية. وهو قرار لم يكن سياسياً بقدر ما كان شعبياً، امتثل له معظم أفراد المجتمع وفي الوقت نفسه لم تتبرّأ منه أي حكومة عربية.

إن إحدى نتائج ردة الفعل الثانية هي أن شركة "آرلا للأغذية"، وهي شركة دنماركية سويدية، وتعتبر أكبر منتج لمنتجات الألبان في الدول الاسكندنافية، وتستحوذ على حصة لا يستهان بها من السوق العربية، عبر تسويق منتجاتها من الحليب والأجبان ("لورباك" و"بوك" مثالاً)، هذه الشركة انخفضت مبيعاتها التي كانت تصل آنذاك إلى 550 مليون دولار سنوياً.. إلى النصف. وبقيت سنوات على هذا الحال قامت خلالها بحملات إعلامية وترويجية محمومة وغير مسبوقة، في محاولة لكسب رضا المتسوق العربي واستعادة ثقته والنأي بنفسها عما فعله أبناء جلدتها، إلى أن استعادت عافيتها.

لعلك تتساءل عن علاقة الرسوم الكرتونية والحليب والأجبان بموضوعنا. والإجابة هي أن هذه النتائج هي أيضاً أحد الوجوه العديدة لثقافة الامتثال!

فمن إيجابيات هذه الثقافة أنها توحد المجتمع نحو تحقيق أهداف معينة. وقد ذكرت في المقال السابق أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرت بها المنطقة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، قادت المجتمعات العربية إلى بناء آليات دفاعية أدت بهم ليصبحوا منحازين لمعايير حياتهم اليومية، وثقافتهم وقيمهم ومعتقداتهم، وجعلتهم ـ فوق ذاك ـ منغلقين على أنفسهم أكثر مما يجب و"إسلاميين" أكثر من اللازم.

 ونتيجة لذلك بدأت المجتمعات العربية بوجه عام تنظر إلى التغيير، باعتباره عيباً أو حراماً أو مشبوها. واليوم أقول إنه بالبقاء بعيداً عن ثقافة العيب والحرام والشك، يمكن للعرب بلوغ كلا الغايتين: تنقية وصيانة ثقافتهم ومعتقداتهم وقيمهم، والمضيّ قدماً نحو خلق مجتمع مبتكر وخلاق. كيف؟

بما أن الوطن العربي يتكون من 22 دولة فإني أرى أن ثقافةً مثل ثقافة الامتثال قمينةٌ بأن تلعب دوراً كبيراً في توحيدهم باتجاه تحقيق أهداف معينة. ولو طُبقت هذه الثقافة بالشكل الصحيح لأصبح بالإمكان إظهار الثقل العربي كقوة عالمية. ولو علمنا أن معدل الدخل القومي للدول العربية يزيد عن 2.5 تريليون دولار، ما يجعلها ثامن أكبر كتلة اقتصادية في العالم، فسوف يؤدي خروج كثير من الدول العربية من نطاق الفقر والاضطرابات السياسية والاجتماعية إلى حدوث تحسّن كبير في ترتيبها ككتلة اقتصادية.

شخصياً، أجد نفسي متفائلاً ـ وبلا تحفظ ـ بأن هذا التحسن قادم. وأبني تفاؤلي هذا على مؤشرين مهمين: أولهما هو "الربيع العربي" الذي يشكل في حد ذاته خطوة باتجاه التخلص والانعتاق من الوضع الراهن. فأنا من المؤمنين بأن "الربيع العربي" هو خطوة البداية.. إلى الأمام وليس إلى الخلف، ومن السذاجة أن يعتقد البعض بأن الثورات تحقق أهدافها بين يوم وليلة.

أما المؤشر الثاني فهو معدل التنمية الاجتماعية والاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي. إذ يحتل مجلس التعاون اليوم موقعه كواحد من أكثر المجتمعات في العالم من حيث التنوع الثقافي، باحتوائه على فسيفساء بشرية من خلفيات ثقافية وقيم وأديان مختلفة، تعيش وتعمل فيه في انسجام ووئام.

هذا النوع من التنوع يجعل الناس أكثر قدرةً على تقبّل الآراء والسلوكيات والأفكار الجديدة. وهذا بدوره يخلق بيئة أعمال حديثة تدفع الناس لركوب المخاطر والابتعاد عن الروتين ونبذ المعتقدات البالية.

قرأت في جريدة "البيان" في الأسبوع الماضي حكمتين تدعمان هذا التوجه. الأولى للعالم والمؤرخ الإسلامي ابن خلدون الذي يقول إن "اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء بل إن الأحياء أموات". والحكمة الأخرى من قراءة في "ومضات من فكر" لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي،، أوردها الأخ سامي الريامي. يقول الشيخ محمد فيها "تعود ألا تتعود". هاتان الحكمتان تدعوان إلى تبنّي نمط تفكير مغاير ومتفتح وغير مقيد، وهما، بلا شك، من المتطلبات الرئيسية لثقافة الابتكار.

أخيراً، وفي الوقت الذي يشهد العالم العربي ما ذكرته آنفاً من تغييرات، تقع على عاتق مبدعيه مسؤولية الدفع بأفكارهم الجديدة ودمجها لتصبح لبنةً أساسية في صرح معايير المجتمع وجزءا لا يتجزأ من نسيجه. يجب أن يكون لدى هؤلاء ما يكفي من الثقة للنضال من أجل ما يؤمنون به. ففي كثير من الأحيان يكون المقياس الأمثل لأصالة وحداثة فكرةٍ ما، هو مدى إيمان صاحبها واستـــعداده للدفاع عنها وتوصيلها للآخرين.

Email