«سوني» تشاهد نصف فيلم فقط

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما قدّمت شركة سوني مسجل الفيديو "بيتاماكس"في الثمانينات أرادت إزاحة منافستها ماتسوشيتا التي قدمت جهازاً مشابهاً، فقامت بتحسين جودة الصورة والصوت بصورة كبيرة للغاية، المشكلة الوحيدة كانت أنّ ذلك أتى على حساب الزمن الذي أصبح ساعة فقط بما لايسمح إلا بتسجيل نصف فيلم أو شوط مباراة واحد فقط.

سوني التي مثّلت في فترة ما قمّة التقنية تعاني هذه الأيام للبقاء على قيد الحياة بعد سلسلةٍ طويلة من التخبطات وخطأ الحسابات والصراعات الداخلية والحلول المشوّهة كما حدث أعلاه، فقيمة الشركة السوقية حالياً 17.7 مليار دولار أي تُسع سامسونغ وواحد من ثلاثين من أبل، بل هذا يمثل ربع قيمتها نفسها قبل عشر سنوات.

وأتت في المركز 38 في قائمة فوربز كأقوى العلامات التجارية بينما منافساتها أبل ومايكروسوفت تصدرتا القائمة، كما تراجعت من المركز 73 إلى 87 في قائمة فورتشن لأكبر 500 شركة عالمية، والأرقام المالية مفزعة إذ لم تحقق الشركة أيّ ربحية في السنوات الأربع الأخيرة بل على عكس ذلك قاربت خسائرها المليارات العشر وهو نزيف لا يتوقع أن يتوقف في قادم الأيام.

كيف حدث ذلك ؟ الجواب سهل افتقاد القائد ذو النظرة البعيدة، فبعد المؤسسين آكيو موريتا وماسارو ايبوكا أتى الغلطة القاتلة نوبويوكي أيداي والذي أدارها من 1995حتى 2005 ، و كما قال نابليون بونابرت "عندما يسيطر الصغار على المؤسسات العظيمة فإنهم يبدأون بتقزيمها حتى تتناسب مع قدراتهم المحدودة"، إذ بدأ أيداي بالتخلص من كبار المصممين و المهندسين بتبكير سن التقاعد وتشجيعهم للتقدم له ما دفعهم لمغادرة الشركة، ظناً منه أنّ المهندسين الصغار سيأتون بمنتجاتٍ مبتكرة.

ولكن العكس ما حدث فقد وجدوا أنفسهم فجأة على المسرح فأطبقوا بأسنانهم على المنتجات الموجودة خوفاً من الفشل فسقطت الشركة سقوطاً مروعاً بجفاف الفكر الابداعي المرحّل رغماً عنه والذي أوصل الشركة للقمة سابقاً، والذي، وهو الأدهى، تلقفت أكثره منافستهم سامسونغ الكورية فوضعوها على قمة التقنية العالمية وسقطت سوني.

تمت إقالة ايداي وتعيين هوارد سترينجر والذي عمل سابقاً كصحفي ثم منتجاً بإحدى شركاتها قبل أن يمسك بفرعها بأمريكا، ولأن "الكتاب من عنوانه" فقد أضاع "الصحفي" الوقت في سياسات خفض النفقات والتي تُسمّى زوراً "استراتيجيات" فأقال قرابة عشرين ألف موظف وحاول جاهداً لمّ شتات "العزب" داخل سوني وإداراتها المتناحرة دون طائل، فحققت الشركة في سنواته خسائر فلكية لتتم إزاحته بدوره وتعيين كازو هيراي والذي استفتح فترته بإقالة عشرة آلاف موظف أيضاً.

أخطاء سوني القاتلة تتشعب بين سوء الحسابات والغرور وقصر النظر التنافسي والخوف، فسوء الحسابات يبدو في أنها اشترت العديد من الشركات لتقوية مركزها ككولمبيا للأفلام و CBS للتسجيلات، وعند الشراء كانت تأخذ كل شئ في تلك الشركة حتى منافض السجائر ولكنها تغفل عن "اقتناء" مديرها التنفيذي الذي كان سبب نجاحها أصلاً، وتوكل ذلك لأحد اختياراتها ففشلت وأخفقت معها تلك الشركات الناجحة سابقاً، وما ذلك إلا كمن يظن أن سيارة رينو هي من تفوز بسباقات الفورمولا وان وبإمكانك وضع أي "دريول باتاني" بدلاً من سيباستيان فيتيل ليحقق لك الفوز.

أمّا الغرور فيبدو في حديث كازو هيراي نفسه عندما قال ذات يوم : "إنّ الجيل الجديد لا يبدأ حتى نقول نحن ذلك" لذلك لم يكن غريباً أن تفشل تقنية "البلو راي" وخياراتها الضيقة بينما كانت أبل تفتح متجرها "آيتيونز" لتحميل ما تشاء من أفلام وبتقنية الوضوح الفائق، وهو ذات الغرور الذي جعل سوني تكابر في البقاء في قطاع التلفزيونات رغم أن خسائرها فيه خلال السنوات الثمان الأخيرة بلغ عشرة مليارات دولار.

قصر النظرة التنافسية وهو الخطأ الثالث يتضح بأنه رغم كونها أول من اخترع جهاز الووكمان ومشغل MP3 وتملك لديها مكتبة هائلة من الموسيقى، إلا أنها لم تتقدّم تلك الخطوة اللازمة للأمام لاحتكار هذا السوق تماماً باختراع جهاز سهلٍ قائم على تلك المكتبة الثرية، وتركت ستيف جوبز ليقلب الطاولة عليها رغم أنّ شركته "أبل" متخصصة في الكمبيوترات وليس الموسيقى ومشغلاتها، وليُقدِّم للعالم جهاز الآيباد الذي كان فعلاً Game Changer و ليقول لسوني بالفم المليان : كش ملك!

الخوف يبدو في فشل شراكتها مع أريكسون في قطاع الهواتف عندما تمنّعت كثيراً من كشف أسرارها التقنية لشريكتها السويدية لمواجهة منتجات أبل وسامسونغ ونوكيا ففشلت الشراكة وانفصلتا العام الماضي، ويتضح في شرائها لشركة جاي كاي لألعاب الانترنت لسبق الآخرين في ألعاب "الحوسبة السحابية" ولكن إعلانها قبل أسبوعين لجهازها بلاي ستيشن4 كان نقيضاً لذلك في خوفٍ غير مبرر تبعه خوفٌ آخر بعدم ذكر سعر الجهاز نفسه تحسباً لحرب أسعار مع منافساتها نينتندو ومايكروسوفت، وكان ترددها في الاعلان عن فضيحة اختراق بيانات الأعضاء عام 2011 لأسبوع كامل كارثياً في سقوط ثقة العملاء بها والذي لا يبدو أن أحداً سينساه.

لن تعود سوني كالسابق حتماً فمنافسوها أكثر تنظيماً وأقوى موقفاً و أحدث منتجاً، كما أنها لن تُفلس أيضاً لأن قانون الإفلاس في اليابان مختلف تماماً وبإمكان الشركات مواصلة أعمالها حتى لو كانت مدينة إلى قمة رأسها، ورغم أنها تراهن على هاتفها الجديد Xperia Z باعتبار قطاع الهواتف من القطاعات النامية النادرة وحالياً تفوق الأرباح التشغيلية لقطاع الهواتف في أبل نظيرتها سوني بــ628 مرة.

إلا أنه رغم جودة هذا المنتج لا يعدو أن يكون "مثل البقية" و ليس منتجاً مبتكراً، و كم هو مؤلم أن تنتقل شركة رائدة من ثقافة "أنظروا ماذا قدمنا للعالم من ابتكار" إلى مرحلة "نحن أيضاً نستطيع عمل ذلك مثلهم"، ومالم تتخلّص من قطاع التلفزيونات الكارثي وتحاول إعادة من تستطيع من "محاربيها القدامى" الذين "طفشهم" جهل الصغير عقلاً أيداي لإعادة روح الابتكار في الشركة وإلا فإنها ستبقى تتلقف فُتات المائدة التي يجلس عليها منافسوها وستبقى تشاهد شوطاً واحداً فقط على جهاز البيتاماكس الساذج.

 

Email