عذراً صاحب الخلق السيئ.. مكانك ليس بيننا

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء في تعريف الخلق أنه هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، دون حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة، كانت الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقاً سيئاً.

وخلق الإنسان هو طبيعته وسجيته، وهو الانعكاس لعقله الباطن، والوسيلة التي يحدد من خلالها حجم وحدود العلاقة مع الطرف الآخر. وهي الموانئ التي تتوجه نحوها سفن العلاقات، لتقرر عند الاقتراب منها أن ترسو في موانئها أو تغير وجهتها.

فهو إظهار وتعبير لطبيعة النفس، لا يحتاج إلى جهد لإظهاره على حقيقته، وخلاف ذلك يُدخل الإنسان في متاهات لا تحمد عقباها، وبالتحديد عند أولئك الذين يتفننون في إظهار ما لا يخفون تجاه الآخرين، بغض النظر عما إذا كان ذلك المخفي وداً ومحبة، أم بغضاً وعداوة.

فإخفاء الود والمحبة تجاه الآخرين، قد يشكل حاجزاً نفسياً ومنحنىً خطيراً لدى الشخص في حال تجاوزه للحدود المألوفة، ويجره للعيش نحو علاقة وهمية من اتجاه واحد، يهدر مشاعره وعواطفه لتقف عند عتبة أبوابهم المفتوحة ظاهراً والموصدة باطناً، لتبدأ بعدها تلك المشاعر بالتراكم ويظل ذلك المتوهم يعيش متأملاً ردة فعل من الطرف الآخر، ويرصد تحركاته ليترجمها عبر فكره المتوهم، فترسم له لوحة من نسج الخيال، ويعيش ضمن حدود إطارها مقيداً، لينتهي به الحال في النهاية إما بحدوث انفراج للعلاقة، أو إلى مصح نفسي لعلاج آثار تلك العلاقة الوهمية.

أما إخفاء البغض والعداوة، وهو محور حديثنا، فهو يصدر من شخصية غير متزنة، ساهم بعض التراكمات الاجتماعية في مرحلة ما من مراحل عمر صاحبها، في حدوث عارض نتج عنه خلل في اتزانها. فالأصل في النفس البشرية هو الاستقامة وحسن الخلق، وخلاف ذلك فهو مكتسب.

يجيد صاحب هذه الشخصية التلون بألوان زاهية، ليجذب بها عقول الآخرين نحو أزهار حديقته الواهية، ليغريهم بشذى عطرها الأخاذ، فيوقعهم في شراكه التي نسجها بين أشواك تلك الزهور، حيث يتفنن في اصطياد أصحاب العقول الساذجة، سطحيي التعامل، ممن تغريهم الظواهر ويصعب عليهم اكتشاف البواطن، من لا يمتلكون المقدرة والمهارة الكافية التي تمكنهم من اكتشاف ما تخفيه الأقنعة، ولا يسعفهم نفسهم المحدود للغوص عميقاً وقراءة ما بين السطور، فيجرهم إلى مراجل حقده وبغضه وعداوته الدفينة، ليلمسوا آثارها السلبية بعد حين، ويظل فاعلها ومشعل نيرانها بحلته الزاهية التي يحرص على الظهور بها أمامهم.

وفي المقابل، يكون عصياً عليه من يمتلكون حساً عميقاً، وحدساً قوياً يمكنهم من اكتشاف البواطن، من يمتلكون القدرة والمهارة الكافية التي تمكنهم من اكتشاف ما تخفيه الأقنعة الواهية، من يمتلكون نفساً عميقاً يقرؤون به بين السطور ما تخفيه كلماتها المنمقة. فتشكل لهم شخصياتهم القوية مصداتٍ تحول دون استغلالهم، لتكون تلك الشخصيات أكثر نجاحاً في علاقاتها الإنسانية والتعاطي مع متطلبات الحياة.

أما تلك الشخصيات الحذرة، التي تحمل شعار "سوء النية حتى يتم إثبات العكس"، فيجيد صاحبها تمثيل دور المتقبل للطرف الآخر، وإيهامه بالوقوع في شراكه التي تخيلها مسبقاً وافترض وجودها، يمتلك ميزة إيجابية في أنه يترك الباب مفتوحاً بالقدر الذي يضمن من خلاله استمرارية العلاقة، ويظل شغله الشاغل البحث عن إثبات لحسن النية حتى يجده، وإلا فمصير تلك العلاقة هو الإنهاء.

قد تختلف الأوصاف والمواقف، وتتفاوت الشخصيات بمستويات انعكاسها لطبيعة النفس وحقيقتها، ويبقى للخُلق الحكم النهائي في تكوين الشخصيات وتحديد مسار العلاقات. وما أحوجنا هذه الأيام إلى الاقتداء برسولنا الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) في أخلاقياتنا وتعاملاتنا، حيث قال الله تعالى لنبيه ((وإنك لعلى خلق عظيم))، فقد كان عليه الصلاة والسلام على خلق قويم جعله قدوة حسنة لأمته، قريباً من الناس، سهلاً ليناً واضحاً في تعامله مع من حوله، يقضي حوائجهم، ويقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولا يعبس في وجوههم، ولا يتردد في مساعدة ومساندة من هم بحاجته.

فهي دعوة مفتوحة لأصحاب الخلق السيئ، للخروج من تلك المتاهة والانتقال للعيش في عالمنا.. دعوة للوقوف وقفة صادقة مع أنفسهم وإعادة تقويمها.. دعوة لإزالة الغبار عن الأنفس لتظهر بيضاء ناصعة كسابق عهدها.. دعوة لترك حيزٍ تتزاحم فيه الأجساد، والخروج إلى عالم تتلاقى فيه الأرواح قبل الأجساد، فالعبرة بحياة الروح وليس الجسد.

هي دعوة لهجرة الأخلاق السيئة إلى عالم الأخلاق الحسنة، عالم الحقيقة وليس الوهم.. دعوة لكسر حاجز الخوف والشتات إلى رحاب الثقة والثبات، وتحرير النفس من زنزانة الانطواء إلى حياة المشاركة والعطاء، حياة صدق العواطف وسكون الأنفس.

 

Email