الإمارات واتجاهات العولمة الحديثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو استطعنا تحريك عقارب الزمن إلى الوراء حوالي أربعة عقود وبالتحديد إلى ما قبل قيام الاتحاد لتبين لنا كم التغير المادي والقيمي الهائل الذي حصل في مجتمع الإمارات اليوم. فالإمارات آنذاك أو ما يعرف باسم الساحل المتصالح كانت تعيش على الكفاف إنتاجياً واقتصادياً ومعيشياً.

كانت الأحلام بسيطة والرؤى غير معقدة، ولم يكن الناس يدركون أن بلدهم في يوم ما سوف يكون في عين العاصفة بل أنموذج للمجتمع المتعولم. كان تدبير لقمة العيش اليومية هو أقصى طموحات الناس في بيئة قاسية لكنها كريمة، وكان الفكر السائد بسيطاً يعكس بساطة الحياة نفسها.

سنوات مرت وإذا بالحال يتغير وبالأوضاع تتبدل وإذا بالإمارات تصبح مجتمعاً يضرب به الإمثال حتى على مستوى دول المنطقة.

من العوامل التي ساهمت في إحداث ذلك التغير لم يكن فقط الثروة البترولية التي جادت بها الطبيعة ولا في وجود الدولة الفيدرالية الحديثة التي أحسنت توزيع الموارد الاقتصادية والبيئية وتسخيرها لخدمة المجتمع ككل، ولا في وجود الفكر السياسي والإداري الناضج الذي دفع بالدولة لكي تكون قبلة العالم بل أيضاً في وجود تلك التيارات الفكرية والاتجاهات الثقافية التي تأثرت بذلك الانفتاح الهائل وأجواء العولمة التي وجدت الدولة نفسها في وسطها.

سنوات طويلة مرت شهدت خلالها المنطقة تحولات جوهرية أوجدت ملامح جديدة للمجتمع وللدولة معاً. أربعة عقود كانت كافية لإحداث هذا التغير المادي الهائل الذي نراه اليوم ماثلاً. وعلى الرغم من التغير الكبير إلا أن التغير غير المادي، أي المختص بالقيم والعادات وحتى النظرة إلى تلك المؤثرات غير المادية لم يتغير كثيراً.

فما زالت الإمارات، مع بقية دول الخليج، توصف دوماً بأنها مجتمع تقليدي قائم على العرف الاجتماعي والعادات المكتسبة الموغلة في القدم والتي عادة ما تلعب دوراً مؤثراً ليس فقط في تشكيل المجتمع بل وفي تشكيل الاتجاهات الفكرية التي تلعب دوراً في بناء الدولة أيضاً.

فعلى الرغم من أهمية هذا التراث المعنوي للمجتمع إلا أن البعض لا يزال ينظر إليه على أنه يمثل تحدياً داخلياً حقيقياً قد يؤثر في بناء الفكر الإنساني وبناء الدولة أن لم توظف عناصره جيداً حتى يمكن الاستفادة من عناصر البقاء والديمومة فيه وتسخيرها لخدمة المجتمع.

 فالبحث عن الصيغ العلمية والعملية المناسبة فيه والتي يمكن من خلالها وضع الحلول لتلك التحديات ضرورة قصوى لبقاء المجتمع موحداً فكرياً واجتماعياً. فمنذ أن بدأ الوعي المجتمعي ينمو ظهرت في مجتمعنا ثلاثة تيارات فكرية داخلية شكلت مناقشاتها وطروحاتها الوعي العام للمجتمع بأسره.

فالتيار الأول، بقيادة أصحاب القرار الاقتصادي، أو رواد الفكر الاقتصادي الذي دائماً ما يبشر بحقبة اقتصادية جديدة تدفع بالمجتمع وبالدولة ككل إلى دائرة أكبر من الحركة والنشاط المفعم، حيث يتم فيها تجاوز الدولة القطرية إلى الدولة المتعولمة باعتبارها وحدة النشاط الأساسي في الاقتصاد العالمي. ففي نظر هؤلاء يمثل الاقتصاد الحصان الذي يجر العربة وبالتالي فلا بد من التركيز على الاقتصاد والانفتاح على العالم معاً حتى يتم بناء الدولة بناءً جيداً حديثاً.

أما التيار الثاني فكان بقيادة رواد الفكر الثقافي، الذين دوماً ما يغوصون في أعماق التغير الحاصل بغية استخلاص حقائق منه ورغبة في استقراء المستقبل والوصول إلى نتائج تشرح لهم ما حصل وما سوف يحصل كنتاج أمين لحركة التغير الحاصل ليس فقط في المجتمع والدولة بل في العالم بأسره. فأصحاب هذا التيار يبنون على الظواهر ويريدون استخلاص النتائج بغية التوصل إلى قناعات تجعلهم قادرين على التخطيط الفكري السليم للمستقبل في ظل المتغيرات المجتمعية الحاصلة ورغبة في تجنب سلبيات أي تغيير.

أما أصحاب التيار الثالث فهم قادة الفكر الاجتماعي والديني والذين عادة ما يأخذهم الحذر والريبة من أي تغير حاصل خاصة ذلك الذي يمس المجتمع وأسس العقيدة والأسس البنيوية الأخرى للمجتمع ويؤثر في تشكيل فكر الأفراد سلباً أو إيجاباً. فكل ما يهم أصحاب هذا التيار هو حماية الأسس الفكرية والاجتماعية والبنيوية التي يقوم عليه المجتمع بغض النظر عن مدى توافق تلك الأسس مع متطلبات الحياة الحديثة أو الانفتاح الذي يعيشه المجتمع. هذه التيارات الثلاثة تظل تجوب وتتصارع في المجتمع وتخلق منه مكاناً ساخناً تلتقي فيه هذه الرؤى مع بعضها البعض،كما تلتقي مع رؤى عالمية أخرى لها مصالحها وأهدافها الخاصة التي تريد تحقيقها في مجتمعنا ومن أهمها تشكيل الفكر العام للفرد وللدولة معاً.

يتضح مما سبق أن كل تيار لديه حجة على ما يقول وسند قوي يدعم وجهة نظره وموقفه. فمما لا شك فيه أن الاقتصاد هو الحصان الذي يجر العربة فلا يمكن رصد أي تحول إيجابي في أي مجتمع دون التحولات الاقتصادية، وبالتالي فإن أصحاب هذا التيار لديهم نسبة كبيرة من التأييد في المجتمع.

من ناحية ثانية فإنه لا يمكن إهمال دور النخب الثقافية ورواد الفكر الثقافي في المجتمع فهم قلب المجتمع النابض وشعوره وحسه الوطني، لذا فهم يحصلون على نسبة كافية من التأييد والمباركة، أما قادة الفكر الديني والاجتماعي فهم ضمير المجتمع وآلة التنبيه فيه في حالة حصول خلل ما، لذا نجد أنهم لا يوظفون العقيدة والقيم الروحية فقط بل يعتمدون على آليات خاصة بهم للحصول على تأييد كاف بين مختلف شرائح المجتمع.

يشير ما سبق إلى عمق الخلافات والإشكاليات المرتبطة بمحاولة كل تيار التوصل إلى صيغة خاصة به تفسر التغير الحاصل وتحاول إيجاد صيغ وآليات خاصة به للسيطرة على التغير وتحويله لصالحها.

لذا يتضح أن التوصل إلى صيغة توافقية بين التيارات الثلاثة هو أسلم طريقة للنجاة من الغرق في محيط متلاطم الأمواج. فبدون هذه الصيغة التوافقية سيظل مجتمعنا مشتتاً بين رؤى داخلية متعارضة وأخرى خارجية خطيرة تريد اكتساب موقع مناسب في مجتمعنا.

 

Email