يحصد زرع الحراك الشعبي العربي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

سنتان مضتا على أول انتفاضتين شعبيتين عربيتين في هذا القرن الجديد، ضد حكومات اتسمت بالاستبداد والفساد والتبعية. فالشرارة كانت في تونس، لكن لهيب هذه الانتفاضات اشتعل حينما حدثت «ثورة 25 يناير» في مصر، إذ إنّ موقع مصر وثقلها البشري ودورها الريادي التاريخي في أحداث المنطقة، كلها عوامل تجعل من مصر مدخلاً لبلاد العرب جميعها.

هكذا كان دخول القوى الأجنبية للمنطقة، وهكذا أيضاً كان خروجها منها، منذ الإسكندر المقدوني، إلى حملة بونابرت، إلى الاحتلال البريطاني، إلى الوجود السوفييتي في المنطقة، إلى «كامب ديفيد» والهيمنة الأميركية.

ربما لا يتذكر شعب مصر، ولا شعوب البلاد العربية، هذه الخلاصة المهمة جداً عن الدور المصري في المنطقة، لكن القوى الأجنبية الطامعة بالهيمنة عليها، تعلم أهمية «المفتاح المصري» لأبواب آسيا وإفريقيا العربيتين.

وقد حدثت «ثورة 25 يناير» بفعل حركة شبابية مصرية تضامنت معها قطاعات الشعب المصري كله، لكن دون استناد إلى قوة سياسية واحدة منظمة لهذا الحراك الشعبي، ما جعل الثورة والثوار دون مرجعية تحصد نتائج الثورة في ما بعد، ما أفسح المجال لحركة «الإخوان المسلمين» لتقتطف ثمار «ثورة يناير»، وهي لم تكن فيها العامل الأهم.

ربما الأمر نفسه ينطبق على الحالة التونسية وعلى استفادة «حركة النهضة» من تداعيات الثورة في تونس. صحيح أن الانتخابات التي تبعت الثورات في تونس ومصر قد أوصلت تياراً سياسياً إسلامياً للحكم، لكن هذه الانتخابات وضرورة التسليم بنتائجها، تحتم أيضاً أن يقبل من وصل إلى الحكم بحق وجود معارضة له تُراقب أعماله وتنتقد أخطاءه.

وبعد تونس ومصر، تواصلت الانتفاضات الشعبية العربية وامتدّت في حركتها على أكثر من بقعة عربية، لكن سيكون من الخطأ وضع كل هذه الثورات والانتفاضات في سلّةٍ واحدة، ثمّ تأييدها والتضامن معها تبعاً لذلك. فالمعيار ليس هو المعارضة فقط، بل الأساس لرؤية أيٍّ منها هو السؤال عن هدف وأسلوب هذه الانتفاضات، ثمّ عن هويّة القائمين عليها.

فالتغيير السياسي وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية، هو أمرٌ مرغوب ومطلوب لدى العرب أجمعين، لكن من سيقوم بالتغيير وكيف؟ وما هو البديل المنشود؟ وما هي تأثيراته في دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية؟.. وهي كلّها أسئلة مهمّةٌ لفهم ما يحدث.

والمشكلة في الموقف من هذه الانتفاضات، أنّ المعايير ليست واحدةً عند العرب ككُل. فمعظم العرب رحّبوا مثلاً بالثورة المصرية، لأنّها أنهت عهداً من سياسةٍ خارجية مصرية كانت لا تعبّر عن مصر وشعبها ودورها التاريخي الريادي، بينما كان المعيار الأهم لدى الشعب المصري، هو مسائل داخلية كالفساد السياسي والظلم الاجتماعي الناتج عنه، وغياب المجتمع الديمقراطي السليم.

وتسود الآن رؤيتان لتفسير ما يحدث في المنطقة العربية، ويزداد الشرخ والمسافة بينهما يوماً بعد يوم. الرؤية الأولى تعتبر أنّ «العدوّ» في هذه المرحلة هو «الاستبداد» الذي يجب إسقاطه، ولو من خلال العنف والاستعانة بقوى أجنبية. أمّا الرؤية الثانية فتعتبر أنّ الخطر الأكبر هو التدخّل الأجنبي في شؤون البلاد العربية، والسعي الدولي المحموم للهيمنة عليها من جديد.

واقع الحال أنّ كلاً من الرؤيتين تحتاج إلى نقدٍ وتصويب. فمواجهة الاستبداد الداخلي بالاستعانة بالتدخّل الخارجي أو العنف المسلح المدعوم خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها.

حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل أو العنف المسلح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية. أمّا «التسامح» مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي، أو تغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية، فإنّه يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل الأجنبي.

إنّ وجود تدخّل وتأثير خارجي في مسارات الحراك الشعبي العربي، يزيد من مسؤولية القائمين على هذا الحراك. لقد كانت هناك حاجة قصوى لإحداث تغيير في واقع عربي قائم على الاستبداد والفساد والتبعية للخارج. لكن الأسئلة المشروعة هي: من يقوم بالتغيير؟ وكيف؟ وبدعمٍ ممّن؟ ولصالح أيِّ برنامج أو رؤى بديلة للواقع المرفوض؟ وماهية آثاره في الوحدات الوطنية الشعبية؟!

هناك مخاوف حتماً على مستقبل الحراك الشعبي العربي أينما وُجِد، من منطلق الحرص عليه وعلى ضرورة استمراره في الطريق الصحيح، والذي يجب أن تكون خواتيمه هي أوطان موحّدة في كياناتها وشعوبها، وحكومات منتخبة عادلة ونظيفة، ومجتمعات قائمة على التعدّدية، يحكمها دستور يساوي بين المواطنين ويضمن الفصل بين السلطات.

 هذا كلّه في الإطار الداخلي، الذي لا يمكن الاكتفاء به كعنوانٍ للتغيير العربي المنشود، فالديمقراطية لا يمكن فصلها عربياً عن مسألتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية. ولعلّ في التجارب «الديمقراطية»، التي حصلت خلال العقد الماضي في لبنان والعراق وفلسطين، ما يؤكّد هذه الخلاصة عن أهمّية التلازم المطلوب بين الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.

فهل، مثلاً، سيدعم «حلف الناتو» أو القوى الأجنبية الأخرى الفاعلة الآن في الأحداث العربية، هذه الثلاثية المنشودة عربياً؟

ولماذا لا يُشجّع «حلف الناتو» الآن على إقامة اتحادٍ اندماجي بين مصر وليبيا وتونس، وفيها حكومات جديدة متجانسة سياسياً وتربطها بـ«حلف الناتو» علاقات جيدة؟! وهل سيترك «الناتو» ثورة مصر تسير في اتجاه تصحيح الخلل مصرياً وعربياً بسبب تحجيم دور مصر، نتيجة «معاهدات كامب ديفيد»؟! وهل سيكون «الناتو» مع دعم نهج المقاومة عموماً ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ومع حقّ العودة للفلسطينيين؟!

المشكلة ليست في «الناتو»، أو في وجود مشاريع «إقليمية» أخرى مهمّة على جوار الأمّة العربية، وفي قلبها المحتلّ إسرائيلياً. المشكلة أصلاً وأساساً، في المنطقة العربية التي سمحت لنفسها من جديد بأن تكون في حالٍ من الانشداد إلى هذه المشاريع الدولية والإقليمية، دون وجود حدٍّ أدنى من رؤية عربية مشتركة، أو «مشروع عربي» يملأ الفراغ الحاصل في المنطقة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، فمصر لم تعد بعد إلى دورها العربي منذ أن غادرته في معاهدات «كامب ديفيد».

 

Email