جريمة هزّت الهند

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاش الشعب الهندي الذي يربو تعداده على الألف مليون نسمة (المليار) ليلة رأس سنة كئيبة، فقد هاله أن تغتصب إحدى بناته في حافلة عامة للركاب قبل ذلك بمدة وجيزة، وهو الاغتصاب الذي هز المجتمع الهندي، وأطلق موجة عارمة من الاحتجاجات في عاصمتها دلهي.

حيث وقعت الحادثة الشنيعة. ولم تقتصر الاحتجاجات على المطالبة بالقصاص من ستة رجال تجردوا من قيم الإنسانية ليمارسوا وحشيتهم مع فتاة في ريعان الشباب، بل طالبوا بتغيير الثقافة الأبوية للمجتمع الهندي، الذي ما زال لا يرى في المرأة إلا متاعاً للرجل، فضلاً عن مطالبتهم بتغليظ عقوبة الاغتصاب، ووضع عقوبات للتحرش الجنسي الذي يعتبر أمراً دارجاً لا يعاقب عليه القانون. وتوجه آلاف النساء إلى النصب التذكاري لمؤسس الهند الحديثة المهاتما غاندي، مناديات بإنصاف المرأة.

وقصة الفتاة ذات الثلاثة وعشرين ربيعاً، التي لفظت أنفاسها في مستشفى في سنغافورة، بعد أن نقلت إليها إثر الاعتداء عليها من قبل ستة أشخاص، مارسوا رذيلتهم عليها على مدار ساعة كاملة ثم رموها من الحافة وهي مسرعة، هي قصة الملايين من أبناء الشعب الهندي، الحالمين بحياة أفضل والمتخذين التعليم والتفوق فيه سلماً لتحسين أحوالهم وللصعود إلى طبقة أعلى.

كانت تحلم أن تكون طبيبة منذ أن كانت طفلة تلعب مع «عروستها»، ثم عظم ذلك الحلم ليكون مستشفى تبنيه في قريتها النائية في محافظة أوتر براديش الواقعة شمال الهند. وساعدها على تحقيق حلمها أن أباها كان مدركاً لأهمية التعليم، حيث كان قد نزح إلى مدينة دلهي العاصمة في العام 1983، تاركاً قريته بعد أن باع قطعة الأرض التي كان يمتلكها.

والمنكوبة، التي نجهل اسمها، لأن القانون الهندي يحظر ذكر أسماء ضحايا جرائم الشرف، كانت عند حسن ظن عائلتها. فانكبت على دروسها بعد أن بدأت في تحقيق حلم حياتها متخصصة في الطب الطبيعي، «وكانت تذاكر آناء الليل وأطراف النهار، يقول أخوها، حتى ظننت أنها لا يغمض لها جفن»، كما أسر ذكر ذلك بحسرة لمراسل الـ«بي بي سي» البريطانية (2/1/2013). وكانت تصر على عدم الزواج إلا حينما يكمل أخواها دراستهما.

لكنها لم تكن تعلم، وهي في ربيع عمرها، أن جثتها ستحرق وسينثر رمادها في نهر الكانج، حسب مراسم دفن الموتى في ديانتها الهندوسية. غير أن دمها لم يذهب هدراً، ورب ضارة نافعة، فقد تعالت أصوات الحركة النسائية الهندية، مطالبة بمحاربة الإرث الثقافي للمجتمع الهندي الذكوري، الذي ما زال في أغلبه الأعم ينظر إلى المرأة كمواطنة من الدرجة الثانية.

ودعا وزير التعليم، شاشي تارور، السلطات للكشف عن اسم الضحية حتى يتسنى إطلاق اسمها على القانون الجديد لمكافحة الاغتصاب. ورفض جميع المحامين المسجلين لدى محكمة ساكيت في جنوب دلهي، وعددهم 2500 محام، الدفاع عن المتهمين، لأنهم اعتبروا ذلك أمراً غير أخلاقي.

ويحق لهؤلاء المحامين اتخاذ هذا الموقف المبدئي، إذ تبين أن سائق الحافلة، وهو زعيم العصابة، رجل منحط، كما يصفه جيرانه، يكثر من شرب الكحول ويميل إلى الشجار. وقد خرج هو وزملاؤه في تلك الليلة، بعد أن أفرطوا في الشرب، في جولة ليلية يريدون الإيقاع بأي امرأة شابة يشاء حظها العاثر أن تستقل حافلتهم. والغريب أن هذا السائق مكلف بإيصال تلاميذ حيه إلى المدرسة، كما تورد «فرانس برس» بتاريخ (3/1/2013).

وصنفت مؤسسة عالمية تعطي استشارات قانونية مجانية، واسمها «لو ترست»، الهند، على أنها «من العشرين دولة الأسوأ بالنسبة لمكانة المرأة الاجتماعية»، كما تنقل الـ«بي بي سي» (29/12/2012 ). وحالات الاغتصاب كثيرة في الهند، فهي ربت على أربعة وعشرين ألفاً العام الماضي، وهذه الحالات هي فقط المسجلة لدى السلطات، ويعتقد أن ثمة آلافاً أخرى من حالات الاغتصاب التي تبقى طي الكتمان، لأسباب كثيرة على رأسها الخوف من الفضيحة والحفاظ على شرف وسمعة العائلة.

لكن المجتمع الهندي قادر على محاربة رواسب الماضي، ومنها النظرة الدونية للمرأة التي ما زالت تعشش في عقول البعض، فهو مجتمع ديمقراطي راسخ. ولعل أفضل وسيلة لذلك، إلى جانب تعديل القوانين، هي في تطوير مناهج التعليم وبث النظرة الحديثة من خلالها.

 

Email