جودة التعليم ونهضة الأمم

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحل علينا عام دراسي جديد، يستدعي معه الرغبة في تخريج جيل جديد أميز مهارة وأكثر علماً، ولا يمكن للمتابع أن ينكر أن دولتنا تولي اهتماما كبيرا للتعليم؛ باعتباره الكلمة الفصل في الحفاظ على حاضر الوطن والحكم على طبيعة المستقبل الذي ينتظره، ولا يمكن لمنصف أن ينكر أننا استطعنا أن نحدث قفزات محسوبة وناجحة على ذات الطريق، في الوقت الذي لم نرض فيه عما حققناه.

وسنظل نطمع في تحقيق الأفضل والمزيد بالمقارنة مع ما يتم من جهد وإنفاق، فضلا عن طبيعة التحديات والإشكاليات التي تواجه المجتمعات في عصرنا الحالي، والتي تتطلب دائما سرعة الحركة في سبيل إيجاد جيل من المتعلمين أصحاب التميز، وليس من حملة الشهادات فقط، جيل يجمع بين إدراك يعقبه إيمان وثقة بثقافته الأصيلة وتراثه وتاريخه، وبين الاستيعاب القائم على الوعي لعلوم العصر وأدواته، ورؤية جلية لا لبس فيها ولا غموض حول تحديد الهدف بدقة لاختصار مسافات الوصول إليه.

وفي إطار سرد رحلة الصعود والتميز، يذكر العالم العربي - صاحب جائزة نوبل في الفيزياء- أحمد زويل، أنه لما وطئت أقدامه أرض الولايات المتحدة الأميركية، تاركا وراءه وطنا مثقلا بالهموم والجراح في مرحلة صعبة من تاريخه، سأل نفسه: ماذا أريد من هذه الرحلة في بلد تتعدد فيه الاختيارات وتلتبس؟ فلما حدد الإجابة بدقة اختار الطريق حتى تحقق له ما أراد.

إن هذا التحديد على المستوى الفردي هو ما يجب أن يطبق على المستوى المؤسسي بآليات كبيرة ومتعاظمة، حتى لا يظل أولادنا عينات نجرب عليها أنظمة تعليمية لا تلبي احتياجاتنا ولا تصنع لنا مستقبلا؛ لأن جانبا كبيرا من نجاح المنظومة التعليمية يرجع إلى اشتباكه مع احتياجات المجتمع، والشاهد تلك الأقسام التي تفتح في الكليات والمعاهد العلمية ثم لا يرتادها أحد من الدارسين، ثم تغلق. وقليل من يسأل ما سبب زهد الدارسين فيها فضلا عن سبب إنشائها أصلا؟

من هنا فمن الأهمية بمكان أن تكون البوصلة الأساسية التي تحدد تحركنا في إطار تطوير العلمية التعليمية داخلية بالأساس، بعيدا عن نقل تجارب الغير كما هي رغم أهميتها؛ فلكل مجتمع ظروفه التي تفرض عليه احتياجات تختلف عن غيره، وينبغي أن تكون الحاجة هي الموجه لطريق السير والبذل.

إن التقارير الدولية التي تضع الإمارات في مكان الصدارة على مستويات عدة، لم تكن إلا نتاجا لجهد بذلته الدولة بكافة مؤسساتها، في المجال التعليمي الذي يكتمل بتحسين مخرجاته، ليس بتحسين المنتج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفني والأدبي وحسب، بل بتحسين الذوق العام ورقي الفكر وتهذيب السلوك؛ فقضية التعليم تقع في المجتمع موقع القلب من جسم الإنسان، فضلا عن أنه بتجويد التعليم يتعاظم الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة وتحقيق أفضل النتائج.

ولا شك أنه مع كل عام جديد تتزايد التحديات التي تواجهنا حتى نستطيع أن نخرج منتجا تعليميا قادرا على المنافسة، في سوق مفتوح تعاظمت فيه المنافسة في إطار الحاجة إلى اكتساب مهارات جديدة تتطلبها تكنولوجيا العصر المعقدة.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في مجال الإعلام - وهو الذي أعايش فيه طلابي ـ أن المصور الصحفي كان منذ سنوات قرينا للمحرر في تغطية الأحداث.

ولا بأس من كتابة اسمه تحت الصورة التي التقطتها عدسته، وكان المحرر لديه من الفسحة والدعة ما يمكنه من الذهاب لمقر الصحيفة لتنقيح الصياغة وتهذيبها، ثم تمر على مصحح لغوي، ثم يتم إدخالها لتصل في الأخير إلى القارئ.

ولكن في ظل السباق المحموم للحصرية والسبق الخبري، ونظرا للمصادر غير المحدودة المتاحة للقارئ، أصبح هذا الأسلوب في العمل الصحفي من الأمور التاريخية المتحفية، وصار مطلوبا من الصحفي اكتساب مهارات عديدة، منها: التصوير، والتعامل مع التكنولوجيا الحديثة، والتصحيح اللغوي، وإرسال التقرير من قلب الحدث إلى المتلهفين أمام آلات المطبعة..

وحتى المحطات الإذاعية، أصبح فيها المذيع خلف الميكروفون يقوم بعمل المخرج و"المونتير" ومهندس الصوت والمحرر والمعد والمقدم في وقت معا، ومن تسقط منه مهارة من تلك المهارات يجد طابورا من خلفه على استعداد للجلوس مكانه. صار في المحطات التلفزيونية الكبيرة من يحرر النشرة وهو نفسه من يذيعها، وأصبح "المونتير" لديه القدرة على إخراجها، أي أنه تم اختزال مهارات ووظائف عديدة في شخص واحد.

الشاهد أن طبيعة العصر واحتياجات سوق العمل تفرض علينا تحديات كبيرة، تتطلب منا مراجعة المنتج التعليمي، ونقد الذات دون جلدها، ومعرفة الاحتياج الفعلي عبر دراسات علمية دقيقة وموثقة.

لذلك من الأهمية بمكان تطوير أساليب التعليم وتقنياتها بما يتناسب وروح العصر، فضلا عن التأهيل المهني للمعلم بشكل مستمر، في إطار التكامل بين المؤسسات التعليمية بعضها بعضا من ناحية، وبين باقي المؤسسات من ناحية أخرى؛ سعيا لتكامل الأدوار بدلاً من العمل بطريقة الجزر المنعزلة.

وإذا كان من أولى المهام للنظام التعليمي الحفاظ على هوية الدولة وتراثها، وتقديم مخرج تعليمي لديه قدرة على استجلاء الحكمة أيا كان مصدرها، دون خفوت للشخصية الوطنية، فإنه من الأهمية بمكان الاهتمام باللغة العربية كلغة أولى للتعليم، دون إهمال باقي اللغات باعتبارها وسيلة للانفتاح على باقي الثقافات وتحصيل المعرفة.

وأعاود القول إنه بحكم تجربتي في ميدان التعليم، فإني أعتقد أن هناك فجوة بين التعليم الجامعي وما قبله، تجعل من الصعوبة بمكان على الطالب أن يواصل دراسته الجامعية بشكل متميز، وهو ما يتطلب مزيدا من الجهد والبذل، فالتميز في المدارس الثانوية يغني عن بذل مزيد من الجهد والأعباء لتأهيل الطالب للدراسة الجامعية.

على الجانب الآخر، فإن هذه التحديات لن يتم تجاوزها والتغلب عليها دون شراكة مجتعية، ابتداء من التخطيط وخلال مراحل التطبيق ومعرفة المردود. فلا يمكن أن تتم الخطط التطويرية في المجال التعليمي، في غياب طرف مهم يتأثر ويؤثر في كل مراحله، وهو الأسرة، وهذه الشراكة هي الضمانة لنجاح خطط التحديث في ميدان التعليم.

إن كفاءة المؤسسات التعليمية، وتطوير المناهج، وتوفير بيئة تحفيزية تتماشى واحتياجات المجتمع، وإعداد جيل من الخريجين مهيأ لاقتصاد المعرفة، باتت ضرورة لا تحتمل التراخي، في عصر تحدد فيه جودة التعليم معيار تقدم الأمم.

 

Email