مرحباً في البابا

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاءت زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان هذا الأسبوع في وقت حرج، إذ كانت الآلاف تخرج في شوارع القاهرة وصنعاء وتونس وبنغازي وغيرها، منددة بفيلم وضيع اسمه "براءة المسلمين"، فيه إهانة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

ومما زاد من خطر الفتنة الطائفية، أن منتج هذا الفيلم أميركي من ذوي الأصول القبطية المصرية، مما أعطى مبرراً إضافياً لأصحاب النزعات الأصولية الإسلامية المتطرفة، لكي يضعوا المسيحيين العرب في دائرة الاتهام والتشكيك، رغم تبرؤ الكنيسة القبطية في مصر وعموم المسيحيين في الأقطار العربية من ذلك الفيلم المشين.

وجاءت كلمات البابا برداً وسلاماً على الألوف الذين خرجوا لسماع خطبته، وبعض هؤلاء من المسلمين اللبنانيين وغيرهم، من الذين يناصرون السلام ويناضلون من أجل التعايش والتفاهم بين أصحاب الأديان والمذاهب المختلفة.

فلبنان قد اكتوى بحرب أهلية طائفية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ولم يبرأ بالكامل من آثارها. وها هي حرب طائفية أخرى قد تنشب على مرمى حجر منه، ربما تكون أكثر فتكاً من تلك التي عانوا منها، وأشد تداعيات على المنطقة بأسرها.

لم أتعجب من خطاب البابا حينما دعا الشباب "العربي المسيحي" لئلا يغادر موطن آبائه وأجداده، فالمسيحيون العرب في تناقص وهم يهاجرون بالجملة إلى ديار الغرب، والسبب الرئيسي بالطبع هو تلك الحملة الشعواء التي تشنها التنظيمات الأصولية الإسلامية المتطرفة عليهم، دون أي التفات إلى تعاليم الإسلام السمحة التي تنادي بالتآخي، والتي تحض على الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة.

ودعوة البابا لكي يبقى المسيحيون العرب في بلدانهم، هي دعوة كل المستنيرين العرب منذ عصر النهضة العربية، الذين ما فتئوا يناضلون لبناء الدولة العربية الديمقراطية القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص، والإيمان بحرية المعتقد، واعتبار أن "الدين لله والوطن للجميع". وللأسف فإن هذا الشعار الجميل والجامع والذي هو أساس للوحدة الوطنية، كان أول ضحايا المد الأصولي الذي ابتدأ منذ سبعينات القرن الماضي.

وأنا أتفهم تخوف البابا من مد السلاح للمقاتلين في سوريا واعتبار ذلك "خطيئة"، فما ينقله المراسلون الصحافيون من الداخل السوري لا يبشر بخير، ولا يدع مجالاً للشك أن المسيحيين سيدفعون ثمناً غالياً في حال سقوط النظام كما دفعوه في العراق.

فقد شاهدت مقابلة أجرتها البي بي سي (باللغة الإنجليزية) مع مراسل الجريدة الفرنسية لوفيغارو، الذي كان قد جال أنحاء مختلفة من سوريا، حيث ذكر أن المسيحيين يتعرضون للاعتداء من قبل الجماعات الأصولية المسلحة، وأن كثيراً من كنائسهم قد هدمت وأحرقت، وأن هؤلاء باتوا في صف النظام.

يؤيد ذلك ما نشرته السي أن أن نقلاً عن صحيفة الديلي تلغراف البريطانية في 13/9، من انحياز المسيحيين في سوريا إلى جانب النظام بعد أن ظلوا طويلاً على الحياد، وانخراط نحو 150 منهم للقتال حماية لمناطقهم في حلب.

وإنني على يقين تام بأن هؤلاء المسيحيين الذين يقفون اليوم مع النظام الاستبدادي، أو أولئك الذين وقفوا مع حكم مبارك في مصر، أو الذين سكتوا عن طغيان صدام حسين، ليسوا مع هذه الأنظمة القمعية ومثيلاتها، لكنهم يتوجسون خيفة من القادم المجهول، ومن ركوب الأصولية الدينية موجة الربيع العربي، وتجييرها لصالح طرحها الديني الإقصائي المتطرف.

والأنظمة الاستبدادية العربية قد عرفت تخوفات أقلياتها وخاصة المسيحية منها، فأخذت تلعب على وتر ذلك التخوف، فهي، أمام هؤلاء وأمام الغرب، تبدو كأنها الحامية لهم، أما واقع الأمر، فلا يعدم أن يكون من يرتكب تلك الأعمال الوحشية من المندسين من أزلام النظام، لتشويه صورة الثورة في أعين الرأي العام العالمي، ولتخويف هؤلاء من التغيير وعواقبه. ألم تكشف التحقيقات مع وزير الداخلية المصري الأسبق، حبيب العادلي، كيف كان بعض الأجهزة الأمنية التابعة له، يثير الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط؟!

خلاصة القول، أن زيارة بابا الفاتيكان لمنطقتنا العربية هذه الأيام، أبرزت لنا دور رجال الدين والفقهاء المستنيرين في تهدئة نفوس العامة، وحثها على الالتزام بما أجمعت عليه جميع الشرائع والأديان، وهو التآخي والمحبة، وهو أحوج ما نكون إليه في هذا المنعطف التاريخي.

Email