بين زمنين

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما أرى شبابنا هذه الأيام وقد عادوا إلى قاعات الدرس، وبعضهم يخطو خطواته الأولى في سلم التعليم الجامعي، تأخذني الذكريات بعيداً إلى ذلك اليوم الذي التحقت فيه للدراسة في جامعة الكويت. السنون التي تفصل بين هؤلاء اليافعين الممتلئين حيوية ونشاطاً وهم يذرعون أروقة كلية العلوم الاجتماعية، وبيني أنا وقد لبست "الجينزة" أتلمس طريقي آنئذ.. هذه السنين بينها مسافة زمنية طويلة.

فشباب اليوم في غالبيتهم الأعم يعيشون ترفاً منقطع النظير، تحت ظل "دولة رحمانية" توفر لهم جميع أسباب الحياة الكريمة، فهم قد ولدوا والنفط قد فاءت خيراته على الجميع منذ مدة طويلة. أما شباب الأمس ومنهم كاتب هذه السطور فقد ذاقوا الحرمان، وإن لم يكن بنفس الدرجة التي ذاقها آباؤهم الذين كانوا في مطلع شبابهم يقطعون البحار والفيافي بحثاً عن الرزق. إن جيل شباب الأمس قد عاش حرماناً جزئياً، ولولا بركات "الدولة" و"أعطياتها" لما مروا بحراك اجتماعي رفعهم إلى خانة الطبقة المتوسطة.

شباب اليوم يدخلون الجامعة وقد حمل كل واحد منهم هاتفاً نقالاً أو أكثر. وهذا الهاتف يربطه بجواره الجغرافي، وبمسافات أخرى تغطي كامل الكرة الأرضية. وهم يحملون هذه الأجهزة ليس للتواصل فحسب، بل وأيضاً للبحث عن المعلومات، وكتابة الرسائل وغيرها الكثير. إنهم يحملون "مكتبات كاملة" في هذه الأجهزة الصغيرة التي يخبئونها في جيوبهم.

شباب اليوم يعيشون عصر الإنترنت وثورة المعلومات، ويشاهدون الفضائيات وتزاحمها على الاستئثار بأكبر قدر من الأثير، وهم يتابعون ما تخلقه من صخب، متنعمين بخيارات متعددة، بين فضائيات غنائية وثقافية وسياسية من كل لون. وهم يركبون سيارات لا يتخيلون أنها من الممكن أن تكون بدون تكييف.

أما شباب الأمس، فحسبه ذاك الهاتف الثابت الذي لم تكن كل البيوت تمتلكه بعد. وكان حظه من أجهزة التسلية قليلا، فقد كان أمامه المذياع "الترانزستور" الذي شاع في ذلك الوقت، والتلفزيون "الأبيض والأسود" الذي بدأ يغزو البيوت رويداً رويداً، يشاهد فيه محطة واحدة تبدأ من المغرب مع الصور المتحركة (باباي البحار الذي يكتسب قوته من السبانخ)، إلى منتصف الليل حيث الختام بالسلام الأميري. أما السيارات فلم يكن شباب الأمس يتخيلها مكيفة. وإلى الآن، وفي بعض الأحيان، أقفل التكييف وأفتح نوافذ السيارة لأتذكر تلك الأيام، وأجد أن الإنسان قادر على التكيف مع كل بيئة.

ويلحظ شبابنا الجدد وهم يضعون أقدامهم في الحرم الجامعي، أن التنظيمات السياسية ذات التوجهات الدينية هي المهيمنة على ساحة جامعتهم، بالشعارات والنشاطات والمظهر الخارجي واللبس وما إلى ذلك. أما شباب الأمس، فإنهم عاشوا مع الشعارات القومية والوحدوية والاشتراكية، والتحرر الاجتماعي كان السمة الغالبة لتوجهات الطلبة في تلك الأيام.

وقد يكون ثمة تشابه بين الأجواء السياسية هذه، وتلك التي عشناها ونحن ندخل الحرم الجامعي لأول مرة. فشباب اليوم يعيشون أحداث الربيع العربي التي لم تكتمل فصولها بعد، والتي لا يمكننا التنبؤ الدقيق بنتائجها النهائية في هذه اللحظة. لكن الشيء الذي يستطيع المرء تلمسه، هو أن نظاماً عربياً جديداً آخذ في التبلور بتحالفات إقليمية غير تلك التي عايشناها في العقود الثلاثة الأخيرة. هذا فضلاً عن تغيرات في السياسية الداخلية لكثير من الأقطار العربية، انسجاماً مع معطيات هذا الربيع.

أما أجواء أيام زمان فكانت أيضاً متحركة، فقد تأجلت الدراسة في جامعة الكويت آنئذ، وذلك بسبب اندلاع "حرب أكتوبر" في العام 1973، حيث تحرك الشارع العربي من أدناه إلى أقصاه تأييداً ومؤازرة لمصر وسوريا. وظنها الجميع "حرب تحرير"، لتتكشف لهم بأنها كانت "حرب تحريك"! إنها كانت من أكثر الفترات المعاصرة في تاريخ الأمة العربية صعوبة.

فها هم العرب وقد ذاقوا حلاوة النصر، بعد مرارة الهزيمة التي تجرعوها في "نكسة" الخامس من يونيو 1967، وها هم يخسرون ذلك الإنجاز التاريخي العظيم ولم تتحقق أمانيهم بالتحرير الكامل.

مثلما كانت لحرب أكتوبر تداعيات، حيث كنا نستهل حياتنا الجامعية، فستكون لما يجري الآن تداعيات ستشكل مستقبل شبابنا وهم في بدء حياتهم الأكاديمية.. مع تمنياتنا لهم بغد مشرق.

Email