الفُرس والعرب في الجاهلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بين قعقعة السلاح ودقات طبول الحرب التي نسمعها منذ مدة على جانبي الخليج العربي، يوجد تاريخ طويل من التفاعل الحضاري بين ضفتيه، اتخذ من العنف وسيلة طوراً، ومن التفاعل السلمي أطواراً أخرى.

وحسناً فعل "المجمع الثقافي" في أبوظبي، حينما أماط لنا اللثام عن جانب من ذاك التفاعل في مراحل مبكرة من تاريخ المنطقة، بترجمته لكتاب المؤرخ الإيراني آذرتاش آذرنوش (واسمه فارسي قح) المعنون بـ "سبل نفوذ الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم". ولو كنت مكان المترجم الحصيف د. محمد التونجي ـ دون التقليل من تميز ترجمته ـ لبسَّطتُ العنوان إلى تأثير الثقافة الفارسية في الجزيرة العربية قبل الإسلام.

ولا حاجة بنا إلى القول إن الفرس قد سيطروا على أجزاء كبيرة من شمال وشرق وجنوب الجزيرة العربية، وبالتالي تأثرت تلك الأجزاء بثقافتهم؛ من دين وعمارة ونظم حكم وغير ذلك. وقد أسهب المؤلف في بيان تلك النواحي، معتمداً أساساً على المؤرخين المسلمين مثل الطبري والمسعودي وابن النديم والواقدي، وعلى جمهرة من المستشرقين، الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة في تاريخ العرب منذ أقدم العصور، إلا وعالجوها بالتحليل والتمحيص والتدقيق.

غير أن أطرف أجزاء الكتاب، هو ذلك الفصل الذي يتحدث فيه المؤلف عن تأثير الثقافة الفارسية في الحجاز، والتي لم تقع تحت السيطرة الفارسية، بل كان تأثرها هو ناتج عن التلاقح الحضاري الذي يتم بين الشعوب والأمم عن طريق التجارة.

وكلنا يعرف مكة وتجارتها ورحلتيها في الصيف والشتاء، واحتكاك تجارها بأهل الجنوب، وبالشمال وبالدول المختلفة التي كانت قائمة آنئذ في المنطقتين، والتي كانت تتوزع ولاءاتها وتحالفاتها إما مع الفرس أو مع الروم.

ومن عجيب ما يورده المؤلف، هو معرفة الفرس لمكة وإجلالهم للكعبة. يقول نقلاً عن المسعودي: "كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به تعظيماً لإبراهيم. وكان آخر من حج منهم إليها ساسان بن بابك، فكان إذا أتى البيت طاف وزمزم على بئر إسماعيل. وإنما سميت زمزم لزمزمته عليها هو وغيره من الفرس" (ص 359). وقد أهدى هذا الملك إلى الكعبة غزالين من ذهب، وجوهراً وسيوفاً وذهباً.

وقد استعملت النقود الإيرانية في مكة، وتاجر أهلها مع إيران، "يقول أبو سفيان: أهديت كسرى خيلاً وأدماً، فقبل الخيل ورد الأدم. وأُدخلت عليه، فألقى إلى مخدة، كانت عنده، فقلت: واجوعاه! أهذه من كسرى بن هرمز؟ فخرجت من عنده فما أمر على أحد من حشمه إلا أعظمها حتى ذهبت إلى خازن له، فأخذها وأعطاني ثمان مئة إناء من فضة وذهب" (ص 364).

وها هو غيلان بن سلمة يدخل على ذات الملك، فيعجب كسرى من حسن تصرفه وذكائه ويشتري منه تجارته بأضعاف ثمنها، ويبعث معه واحداً من الإيرانيين ليبني له أُطماً (قلعة أو حصناً)، فكان أول أطم بني في الطائف.

وإضافة إلى بناء القلاع والحصون والخنادق (كذاك الذي أشار إليه سلمان الفارسي في غزوة الخندق)، دخل كثير من فنون البناء الفارسية إلى منطقة الحجاز، من قبيل النوافذ المسماة "روشن"، والتي كانت موجودة في بيوتنا العربية في منطقتنا الخليجية قبل عصر الحداثة، بنفس التسمية (الروشنة)، فضلاً عن كثير من الأسماء والألفاظ، وبعضها قد ورد في القرآن الكريم كإستبرق وغيرها.

وأخذ المكيون بعض الأكلات من الفرس، فقد وفد أحد زعمائهم، ويدعى عبدالله بن جدعان، على كسرى وأكل عنده الفالوذ (فالوذج) فسأله: ما هذا؟ فقال: هذا الفالوذ. قال: وما الفالوذ؟ قال: لُباب البُر يلبك مع العسل. قال: ابغوني غلاماً يصنعه. فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه ابن جدعان ثم قدم به معه إلى مكة، ثم أمره فصنع له الفالوذ. فوضع الموائد بالأبطح إلى المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر.

وما زالت الفالوذة (كما نتداول تسميتها في منطقتنا منذ نعومة أظافرنا) تقدم في المطاعم الإيرانية كتحلية، فهي "آيس كريم" الإيرانيين.

Email