عربي في الفولغا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحتوي "رسالة ابن فضلان" ملاحظات كثيرة، سجلها الرحالة العربي حينما جال في "بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة" في 309 هجرية الموافق 921م. أما سبب جولته أو بالأحرى "بعثته" لتلك الأصقاع الموحشة، فهو طلب "ألمش بن يلطوار" ملك الصقالبة، من الخليفة العباسي المقتدر أن يرسل إليه "من يفقهه في الدين، ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجداً". وكان يلطوار هذا يحكم منطقة تقع في شمال بحر قزوين، على نهر الفولغا الروسي.

وملاحظات ابن فضلان التي أودعها في رسالته، تحوي الكثير من الطرائف والغرائب عن حياة تلك الشعوب التي مر بها، لعل أولها شدة البرد القارس، يقول: "فرأينا بلداً ما ظننا إلا أن باباً من الزمهرير قد فتح علينا منه، ولا يسقط فيه الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة، وإذا أتحف الرجل من أهله صاحبه وأراد بِرَّه، قال له تعال إلي حتى نتحدث فإن عندي ناراً طيبة".

وهو يصف قوماً مر بهم في طريقه بأنهم "كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئاً، بل يسمون كبراءهم أرباباً".

والغريب أن أمر هؤلاء شورى بينهم كما يكتب ابن فضلاًن، لكنه يستدرك قائلاً: "غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه، جاء أرذلهم وأخسهم فنقض ما قد أجمعوا عليه"! وقد لا حظ عند قوم آخرين (الخزر الذين يعيشون في القفقاز) أن "مدة ملكهم أربعون سنة إذا جاوزها يوماً واحداً قتلته الرعية وخاصته، وقالوا: هذا قد نقص عقله واضطرب رأيه"!

وانطباع ابن فضلان عن أهل الشمال أنهم "مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلاً ونهاراً، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده"! واستغرب من معاملتهم لمرضاهم، فإذا "مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحية عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئاً من الخبز والماء.

ولا يقربونه ولا يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه، فإن برئ وقام رجع إليهم، وإن مات أحرقوه"! "ولا تبكي النساء على الميت ـ وهذا من الغرائب الأخرى التي يرويها في هذا المقام ـ بل الرجال يبكون عليه، يجيئون في اليوم الذي مات فيه، فيقفون على باب قبته فيضجون بأقبح بكاء يكون وأوحشه"!

وقد رأى ابن فضلان العجب العجاب من الصقالبة الذين كان في طريقه إلى هدايتهم، فهو يقول: "وينزل الرجال والنساء إلى النهر فيغتسلون جميعاً عراة لا يستتر بعضهم من بعض.

ولا يزنون بوجه ولا سبب، ومن زنا منهم كائناً من كان ضربوا له أربع سكك وشدوا يديه ورجليه إليها وقطعوا بالفأس من رقبته إلى فخذيه، وكذلك يفعلون بالمرأة أيضاً". ويضيف: "وما زلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك، ويقتلون السارق كما يقتلون الزاني".

المهم في الأمر أن ابن فضلان قد وصل إلى ديار ملك الصقالبة يلطوار، بعد أحد عشر شهراً قضاها وثلاثة من رفاقه يقطعون الفيافي والقفار والغابات ويعبرون الأنهار، من بغداد مروراً بفارس ثم بما يعرف الآن بتركمانستان، ثم إلى منطقة الفولغا شمال بحر قزوين. وفي اليوم الموعود وقف الملك وحاشيته، وأتى ابن فضلان ليقرأ كتاب أمير المؤمنين الخليفة العباسي المقتدر.

يقول: "وبدأت فقرأت صدر الكتاب، فلما بلغت منه سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو قلت: رد على أمير المؤمنين السلام. فرد وردوا جميعاً بأسرهم، ولم يزل الترجمان يترجم لنا حرفاً حرفاً، فلما استتممنا قراءته كبروا تكبيرة ارتجت لها الأرض".

تخلى الملك ألمش يلطوار عن اسمه واسم أبيه ـ لأنه اعتبرهما اسمين جاهليين ـ وعن لقبه الملكي، لأن ابن فضلان بين له أن المُلك لله، وتسمى بجعفر بن عبد الله، وأصبح الخطباء يدعون على المنابر متضرعين: اللهم أصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير بلغار مولى أمير المؤمنين.

 

Email